اهم الاخبار

الطنجية المغربية.. خلطة سرية للرجال تذوب فيها النساء

بين أزقة المدينة القديمة لمراكش المغربية، يشق عبدالرحيم طريقه مُتجهاً إلى “فرنتاشي” الحي (الرجل المكلف بإيقاد النار للحمامات التقليدية)، يُسارع الخُطى حتى يصل في الموعد المحدد، دون أن يسبقه أحد.

في بناية تقليدية قديمة بسوق القصابين، يدلف عبدالرحيم باباً مُنخفض العلو، يقوده إلى درج صغير يمتلئ جانبيه بالرماد وينتهي نحو ساحة ضيقة، أدناها قطع خشب وفلين وأقصاها موقد نار خمد لهيبه، أما صدرها فيتمدد فيه “با البشير” أمام إبريق شايه المُعتاد، مُرحباً بالأواني الفخارية لزبنائه.

احتكار الرجال

على غرار جميع المراكشيين، يستقبل “با البشير” زبنائه بابتسامة عريضة تلفها روح الدعابة والنكتة. يتسلم الإناء الفخاري، ويُحرك مكوناته، مُعلقا بلهجته المُراكشية :”بشاخ أ ليدام، مرحبا ببنت الرماد”.

وتقال هذه العبارة تعبيراً عن الاحتفاء بقطع اللحم والدهون المكونة للطبق الذي يُطلق عليه أيضاً اسم “بنت الرماد” نظراً للساعات الطوال التي يأخذها طهيه، والتي قد تصل إلى ليلة كاملة.

واشتهرت مدينة مراكش بطبق الطنجية، إذ لا يأتي إليها زائر دون أن يذوق من لذيذ طعمها، إما في مطاعم المدينة المتخصصة في ذلك، أو لدى الأسر المراكشية التي لا تخلو منازلها من جرة عريقة عُمرها سنوات، أو رجل تلجأ إليه النسوة والأطفال لإعداد الطبق السحري.

ويقول عبدالرحيم لـ”العين الإخبارية”: “الطنجية طبق رجالي بامتياز، يتكون من اللحم والتوابل”، مضيفاً: “كبرنا ووجدنا الآباء يُعدونها لأبنائهم، لكن يُقال إن الأصل في الطبق أكلة يتشاركها العمال والحرفيون في المدينة”.

وتجمع الحكايات المتداولة بين المراكشيين، بحسب عبدالرحيم، على أن هذا الطبق اقترن منذ زمن بالنزهة والفسحة الجماعية للرجال الممتهنين للصناعة التقليدية، إذ يخرجون جماعات يوم عطلتهم الذي يصادف الجمعة من كُل أسبوع، إذ كان مناسبة للخروج إلى المساحات الواسعة التي يُغطيها النخيل نواحي المدينة، ويستغرقون في الغناء والرقص على أنغام “الدقة المراكشية”، وهو غناء تقليدي تنفرد به المدينة عن غيرها.

خلطة سحرية

وعلى غير بعيد من محل “با البشير”، وتحديدا عند عن مغيب الشمس، تنتصب الخيام وسط ساحة جامع لفنا وسط مراكش.

هُناك تتراقص الأدخنة على أنغام أهازيج العروض الفلكلورية المعروضة هُناك، وبين عربات الطعام ينتشر زوار المدينة الحمراء، سواء كانوا من الخارج أو قادمين من مدن أخرى، إذ لا تستقيم زيارة مُراكش دون تذوق طبق الطنجية.

يقف التهامي وسط طاولات مطعمه البسيط، خيمة وكراسٍ من الحديد والخشب، وفي الوسط منصة عظيمة، تُغطيها رؤوس الغنم وأطرافها، فيما تُحيط بها جرات مختلف الحجم خاصة بطهو الطنجية، وفي الخلف يقف ثلاثة شُبان يلفتون انتباه الزوار بأهازيج الدقة المراكشية.

بطاقيته التقليدية وجلبابه ذي اللون البُني، يتنقل بين زُبنائه، يُكلم هذا بالفرنسية، ويُمازح آخر بالألمانية، ويقلد المُسلسلات المصرية عند استقباله زوجين قدما من أم الدنيا لقضاء شهر العسل بين ثنايا مدينة البهجة، ثم يمضي ليستعجل النادل في إحضار طلبات البقية، قبل أن يعود إلينا وفي يديه كؤوس شاي بالنعناع، قائلا: “لا يحلو تناول الطنجية إلا بكأس شاي يهضم الدهون، ويُعلي المزاج”.

ويسترسل في الحديث بلهجته المراكشية، قائلا: “لا يطبخ الطنجية إلا الرجال، وهي رمز الضيافة لدى المراكشيين، كما أنها رمز احتفال أيضاً، نُقدمها للعرسان وسلطان الطلبة الذي أبدى براعة في حفظه للقرآن”.

ويُضيف: “سر لذتها في تنوع التوابل المستخدمة في إعدادها وطول مدة طبخها التي تتراوح ما بين 4 و8 ساعات، وقد تصل إلى 12 ساعة في الحالات الفضلى، ما يسمح للتوابل بالاندماج في قطع اللحم الذي يُطهى على نار الرماد المهيلة”.

ويشدد على أن إعداد الطنجية سهل مُمتنع، فرغم مقاديرها البسيطة، فإن الخبير في إعدادها يُجيد وضع المقادير بشكل دقيق حتى يحصل على طبق متوازن دون زيادة أو نقصان، ويتفادى غرق قطع اللحم في الماء حتى لا تغرق سمعته بين نكات أهل السوق.

موضحاً أن الطنجية المثالية، هي تلك التي تكون قطع اللحم فيها رطبة كالإسفنج، وخالية من الماء دون أي سواء أو التصاق بالإناء الفخاري، ناهيك عن النسمة المتوازنة للتوابل.

ولفت إلى أن طول مدة الطهي، يجعل الطاهي أمام اختبار حقيقي، وهو ما يفرض طقوساً خاصة لفتح الجرة وإفراغها من اللحم الموجود فيها، وهي طقوس يجتمع فيها الترقب بالفضول، حينها إما يُصبح الطاهي أضحوكة زمانه، أن نقول له “آ تبارك الله على المعلم”، يعلق التهامي ضاحكاً وهو يصفق بيديه.

وأضاف أن معظم القادمين إلى مراكش، تسحر المدينة عقولهم بتُراثها ومآثرها ذات الحكايات الرائعة، لكنها تأسر أمعائهم بالمذاق الساحر للطنجية المراكشية، ما يجعل الكثيرين كُلما زاروا المغرب يعودون إلى مراكش خصيصاً لتناول هذا الطبق العريق.

زر الذهاب إلى الأعلى