أزمة “كورونا”.. لا أحد يعلم ماذا سيحدث في المستقبل!
ترجمات
د.مارك ليلا♦
يبدو أننا لسنا مصممين بشكل جيد للعيش في حالة من عدم اليقين. ولم يبالغ روسو إلا قليلاً عندما قال إنه عندما تكون الأمور مهمة حقاً، فإننا نفضل أن نكون مخطئين على عدم تصديق أي شيء على الإطلاق.
وكتب توماس هوبز، ذات مرة، أن أفضل نبي هو أفضل مُنجم. ويبدو أن هذا هو القول الفصل بشأن قدرتنا على التنبؤ بالمستقبل؛ لكنها حقيقة لم يكن البشر قادرين على تقبلها قط، فالأشخاص الذين يواجهون خطراً داهماً يريدون أن يسمعوا صوتاً رسمياً يمكنهم أن يستمدوا منه بعض اليقين؛ لأنهم يريدون مَن يُخبرهم بما سيحدث، وكيف ينبغي أن يستعدوا، وأن كل شيء سوف يكون على ما يرام.
اقرأ أيضاً: لماذا لم نكن مستعدين لفيروس كورونا؟
ولعل تاريخ البشرية هو تاريخ من نفاد الصبر؛ فنحن لا نريد معرفة المستقبل فحسب، بل نريد معرفته وقتما نشاء. ويدين سفر أيوب هذه الرغبة في الاهتمام الفوري بدافع من الغطرسة؛ لأنه من خلال المعاناة التي نمر بها، يُظهر لنا الله بشكل واضح أنه ليس آلة للبيع. فهو يُظهر وجهه ويكشف عن خططه عندما يحين الوقت، وليس حين يُداهمنا هوانا. حيث يخبرنا الكتاب المقدس أنه علينا أن نتعلم انتظار إرادة الله، وأن التوفيق يأتي من خلال ذلك؛ لأن أيوب قد تذمر بلا شك.
يعرف المنجمون المتمرسون في الحديث عن المستقبل هذه الحقائق، ولهذا فإنهم يضعون في تقاريرهم جميع الافتراضات التي ينطوي عليها التنبؤ ودرجة الثقة الإحصائية التي قد تكون لدى المرء في تقديرات معينة، بالنظر إلى البيانات وطرق البحث المستخدمة. لكنّ الصحفيين والمسؤولين الحكوميين المتعجلين لا يقرؤون أو يفهمون الحواشي، ومع إلحاح الجمهور للحصول على المعلومات، فمن المفهوم أنهم يمررون أكثر التقديرات لفتاً للنظر فقط لاجتياز اليوم.
متحدثة البيت الأبيض بشأن أزمة “كورونا” ديبورا بيركس.. تشرح السيناريوهات المتوقعة لنهاية تفشي الوباء خلال مؤتمر صحفي- أبريل 2020
وفي عصرنا الحالي يعلن رؤساء البلديات ومديرو المدارس، الذين يضعون ثقتهم في خبراء الأرصاد الجوية، بشكل روتيني، عمليات الإغلاق قبل يوم أو أكثر مقدماً. ولكن إذا لم تصل العاصفة، فإنهم يتعرضون إلى انتقادات حادة من أولياء الأمور الذين خسروا يوماً من العمل أو اضطروا إلى إيجاد رعاية نهارية للأطفال. وإذا تسببت عاصفة غير متوقعة في إصابة المدينة بالشلل، وأغلقت الشوارع وحوصر الأطفال في المدارس، فإن ردة الفعل تصبح أسوأ بكثير. وقد خسر أكثر من عمدة محاولة إعادة انتخابه بسبب التنبؤات الفاشلة، وأصبح ضحية لثقتنا المفرطة في البصيرة الإنسانية.
اقرأ أيضاً: جائحة فيروس كورونا ستغيِّر النظام العالمي إلى الأبد
ناهيك بأن تراجع الطلب العالمي أدى إلى تباطؤ النمو، وأن وول ستريت هي ملكة الدراما، وأن اصطدام ناقلة نفط كان سبباً في اندلاع حرب. وهكذا تتجه الصحافة والجمهور إلى وجوه أكثر حداثة، والساحة العامة اليوم مزدحمة بالمتنبئين الذين يدَّعون المعرفة بعالم ما بعد “كورونا” وما سيعنيه هذا الوباء بالنسبة إلى الانتخابات الرئاسية الأمريكية، والشعبوية، وآفاق الاشتراكية، والعلاقات العرقية، والنمو الاقتصادي، والتعليم العالي، وسياسات مدينة نيويورك.. وغيرها من الأمور.
لكن مستقبل ما بعد “كورونا” غير معروف، ولن يكون معروفاً إلا بعد أن ننجح في تخطيه. فالنبوءات الدينية عقلانية على افتراض مفاده أن المستقبل بين أيدي الله وليس بين أيدينا. وإذا كنا لا نؤمن بمثل هذه النبوءات، فليس لدينا أي سبب لنسأل عما قد يحدث لنا. بل ينبغي أن نسأل فقط عما نريده أن يحدث، وكيف نجعله يحدث، في ظل قيود اللحظة الراهنة.
اقرأ أيضاً: في لحظة معتمة الزعامة ليست خياراً
وبعيداً عن الطبيعة البيولوجية الفعلية لفيروس كورونا، الذي بدأنا للتو فهمه؛ فإنه لا شيء معروف على وجه الدقة. ويعتمد عدد المصابين بالمرض على كيفية تصرفهم، وكيف نقوم باختبارهم، وكيفية معالجتهم، ومدى حظنا في تطوير لقاح.
تظهر الصورة التي تم التقاطها في مارس مطار رونالد ريغان الوطني بعد توقف حركة السفر- الولايات المتحدة 2020
وستحد نتيجة تلك القرارات من الخيارات التي يواجهها أصحاب العمل ورؤساء البلديات ورؤساء الجامعات وأصحاب النوادي الرياضية في ما يخص إعادة فتح أبوابهم. ومن ثمَّ ستصب قراراتهم في قراراتنا؛ بما في ذلك مَن نختاره للرئاسة الأمريكية في نوفمبر من هذا العام. وسوف يكون لنتائج هذه الانتخابات الأثر الأكبر على ما سنشهده خلال السنوات المقبلة.
اقرأ أيضاً: الحرب المحتمة.. هل تنجح الولايات المتحدة والصين في تجنب مصيدة ثيوسيديدس؟
لقد أظهر الوباء مدى ضخامة المسؤولية التي نتحملها تجاه المستقبل، وأيضاً مدى عدم كفاية معرفتنا في ما يتصل باتخاذ قرارات حكيمة وتوقع العواقب. وعند مستوى معين، لا بد أن يدرك الناس أنه كلما تعلموا أكثر عما هو محدَّد سلفاً، زادت سيطرتهم على الأمور. والبشر يريدون أن يشعروا أنهم في مسيرة قوية نحو المستقبل، في حين أننا نتحسس طريقنا في الضباب.
إن قدراً ما من التواضع قد يفيدنا في اللحظة الراهنة. وقد يساعدنا أيضاً في أن نتصالح مع حالة عدم اليقين الجذري التي نعيشها. دعونا نُحيل أنبياءنا ومتنبئينا للتقاعد. ودعونا نتوقف عن مطالبة الخبراء الصحيين والمسؤولين الحكوميين بتقديم توقعات واثقة لا يمكنهم القيام بها. ولنكف عن الشعور بخيبة الأمل عندما يتبين لنا أن التوقعات التي أجبرناهم على قولها غير صحيحة.
اقرأ أيضاً: هل يمكن أن تكون هناك حقًّا استجابة “دولية” لفيروس كورونا؟
إننا نزيد الوضع سوءاً بتركيز اهتمامنا على الجدل بشأن الماضي، والمطالبة باليقين حول المستقبل. يجب أن نتقبل ما نحن عليه، على أية حال، وما هو محكوم علينا أن نفعله في الحياة، وهو: أن نتحسس طريقنا ونخطو خطوة، ثم نتحسس طريقنا ونخطو خطوة.. وهكذا.
♦أستاذ العلوم الإنسانية بجامعة كولومبيا
المصدر: نيويورك تايمز