الكاتب: مصطفى نعمان
هل سيصبح وقف الحرب مدخلاً محرجاً لتساؤلات الناس عن أوجه إنفاق الموارد والجبايات التي تتحصلها “جماعة أنصار الله” الحوثية؟
قبل خمسة أيام من إقصاء الرئيس عبدربه منصور هادي عن موقعه أعلن، يوم الثاني من أبريل (نيسان) 2022، موافقة التحالف والحكومة اليمنية والحوثيين الدخول في أول هدنة محددة المعالم والاشتراطات. حينها ارتفع سقف الآمال عند المواطنين المحاصرين بالفقر والمرض في الداخل، ويعيشون معرضين لهوس القناصة والألغام والقذائف العشوائية، ولكن الواقع أن استمرارها (أعني الهدنة)، مرتبط بدرجة أساسية وعضوية بتفاهمات خارجية أكثر تأثيراً من مواقف القوى الداخلية، وبخاصة الحكومة الشرعية، وهذا تعززه دلالة الزيارات التي يقوم بها المبعوثون الخارجيون والمبعوث الأممي إلى العواصم صاحبة القرار المنخرطة في الحرب اليمنية.
ولا شك في أن الهدن الأربع مثلت كثيراً للمواطن العادي الذي تلمس منفعتها المباشرة فمكنته من النوم بهدوء وأمان للمرة الأولى منذ أكثر من سبع سنوات، تعرض خلالها للرعب والتهجير وانقطاع كل أسباب العيش، كما أنها منحت الساعين إلى وقف الحرب نهائياً فرصة للدفع بمحاولات ابتكار خطة سلام قد يقبلها المتحاربون.
أطراف الحرب اليمنيون يهددون المواطنين كل صباح برفض تمديد الهدنة الحالية التي تنتهي في الثاني من أكتوبر (تشرين الأول) المقبل، ولكل طرف مبرراته الذاتية التي لا تتعلق بحاجة المواطن، وذلك في وقت يسعى فيه المبعوثان الأممي والأميركي إلى إقناعهم بحيوية التمديد لفترة أطول من الفترات الماضية، لأن مهلة الشهرين لا تتيح الفرصة للتفكير أبعد منها، فبمجرد الموافقة عليها تبدأ المفاوضات لتمديدها.
يشير الواقع إلى أن الحوثيين لم يوافقوا على فتح الطريق المؤدي إلى وسط مدينة تعز، وعرضوا بديلاً قالوا إنه موقت رفضته الحكومة. والحال أن الجمود الذي يشهده المسار السياسي هو نتاج طبيعي لعدم وجود الرغبة الجادة في إنهاء الحرب، إذ تشعر “جماعة أنصار الله” الحوثية أن التزامات السلام أكبر من التزامات الحرب، وتدرك أن وقفها سيفرض عليها التزامات مادية ومعنوية في النطاق الجغرافي الواقع تحت سيطرتها. هم يبررون عدم الوفاء في دفع المرتبات وتحسين الخدمات العامة، بأن البلد في وضع مقاومة تستدعي تسخير كل الموارد للإنفاق عليها. وهكذا سيصبح وقف الحرب مدخلاً محرجاً لتساؤلات الناس عن أوجه إنفاق الموارد والجبايات التي تتحصلها “الجماعة” من عوائد بيع المشتقات النفطية والاتصالات والضرائب وغيرها من البنود التي تفرضها من دون قانون، كما أن استمرار الحرب يمنع أي استفسارات عن مظاهر الثراء التي ظهرت فجأة على بعض قياداتهم، وعدم شعورهم بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الناس.
في الوقت نفسه فإن الحكومة تجد في استمرار الحرب وسيلة لبقائها والامتيازات التي تحصل عليها ولتبرير فسادها وعجزها الفاضح عن القيام بواجباتها الأخلاقية والوطنية، وهي أظهرت عدم الكفاءة في تنفيذ أي من وعودها المتكررة. وهذا هو السبب الحقيقي في تأخر الحصول على الوديعة الموعودة من الرياض وأبوظبي، إذ إن العاصمتين مقتنعتان عن حق بأن الحكومة غير مؤتمنة على أي مبالغ إضافية قبل ضبط الإيرادات وأوجه الإنفاق النزيهة، ووقف العبث بالمال العام ومعرفة مصير المليارات السابقة.
كان الناس يضعون أملاً في أن يتمكن المجلس الجديد المشكل في السابع من أبريل 2022 من الانشغال بالجهود الداخلية، وقيام أعضائه بزيارات للمحافظات البعيدة من الحوثيين والاقتراب من الناس والاستماع إليهم ومعرفة ما يريدون، لكن الذي حدث أنهم لم يستقروا حتى في عدن التي هي افتراضياً العاصمة الموقتة، ولهذا الأمر أسباب متعددة.
يعبر أداء رئيس مجلس القيادة الرئاسي عن نموذج مثالي لعدم الحسم بحكم تكوينه النفسي، فهو يفضل البقاء في منتصف الطرق بين المتناقضات والصراعات والخصومات، وهذا يمكن أن يكون مقبولاً ومفيداً في الأحوال الطبيعية، لكن الأوضاع الحالية تستلزم اتخاذ قرارات قد تكون موجعة. وأنا أتفهم أنه ورث أوضاعاً معقدة وتراكمات لا يمكن تفكيكها سريعاً، لكن الواضح أنه غير راغب في الإفصاح عن توجهاته التي ربما، أقول ربما، مكنته من حشد الرأي العام، وعوضاً عن ذلك انشغل بأعمال لا تعود بالنفع على البلاد والمواطن. كما أن الغموض والارتباك اللذين يحيطان بأدائه وأداء المجلس مجتمعاً، وتوقف اجتماعاته وعدم إقرار لائحة تنظم أعماله واختصاصاته، نتج منها ارتفاع منسوب التشكيك في قدرته مجتمعاً أو فردياً على الإسهام في إخراج البلد من محنتها وتحسين أحوال الناس.
يجب أن يكون مفهوماً أن المهمة الأولى التي يتوجب على مجلس الحكم معالجتها هي تفسير غياب أعضائه عن المشاركة في الفعل وأيضاً توحيد خطاب المجلس الإعلامي، لأن ما يربك الناس هو عدم الوضوح والازدواجية التي يمارسها بعضهم. فمن غير المعقول أن يكون للأعضاء خطابان أحدهما موجه إلى قواعدهم، وآخر يتحدثون به إلى بقية الناس… كما يتوجب عليهم الالتزام بالشفافية في تصرفاتهم والتوقف عن العيش في الخارج، وهي قضية عاناها الناس خلال سنوات الحرب، متذكرين أن الرئيس هادي قضى معظم سنوات حكمه خارج البلد.
لا تخطئ العين التصدع المبكر الذي أصاب كيان المجلس وسبب ذلك العجز الفاضح في السيطرة على إدارة المجلس، وبخاصة على ممثلي القوى المسلحة داخله، وهي التي تمتلك كل القدرات لفرض رؤاها. كما أن شخصية الرئيس الحالي هي أقرب إلى التعايش مع المشكلات عوضاً عن حلها، إذا رأى في ذلك ما سيسبب له صداعاً، ولكنه لا يدرك أنه من غير الجائز أخلاقياً ووطنياً استدامة التعويل طويلاً على الدعم الخارجي في غياب السند الوطني، فذلك هو بالضبط الخطأ نفسه الذي وقع فيه سلفه هادي الذي انتهى دوره حين قرر اللاعبون الخارجيون رفع الغطاء عنه واستبداله بالمجلس الحالي. ومن المحتم أن استمرار هذا الأسلوب سيضعه سريعاً وجهاً لوجه مع القوى التي تعلن صراحة مشاريع أبعد ما تكون عن الرغبة في بقاء البلد موحداً.
إن الارتباك في المشهد السياسي وعدم وضوح الرؤية والاكتفاء بالتصريحات غير المؤثرة، والإصرار على استخدام لغة غير مقنعة في مخاطبة الناس، كلها تعقد الأوضاع وتعرقل اتخاذ القرار الحاسم والحازم في تمديد الهدنة، وسيجعلها قضية للمزايدة، وللأسف فإن المواطن وحده هو الذي يدفع الثمن منفرداً. وعلى الرئيس التوقف عن إدارة المجلس بمنهج إرضاء الجميع وتجاهل المشكلات كلية، لأنه بذلك يعجل بتفكك المجلس وتصدع بنيانه، ما لم يسرع في تجاوز الأساليب العتيقة في الحكم، والابتعاد عن الجمل الخشبية المملة، وعدم التفكير في شراء الولاءات… وقبل كل ذلك البقاء داخل البلاد واعتبار الزيارات الخارجية حدثاً استثنائياً.