بالادلة الدامغة..(ذو القرنين) يمني الاصل بعد جدل دام لآلاف السنين .. شاهد الأدلة القاطعة على ذلك
من هو ذو القرنين وما جنسيته..قراءة جديدة؟!
كتب توفيق السامعي
ذو القرنين أول ما نبه لذكره هو القرآن الكريم ولم ترد أية نصوص أخرى من نقوش أو مخطوطات عنه منذ ما قبل الإسلام أو الميلاد، لكن كانت هناك معرفة سابقة عنه -غير مفصلة- بحكم تواتر الروايات بدليل قول الله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً}الكهف83، ويشير من أسلم من اليهود أن ذكره كان موجوداً حتى في التوراة.
وقد اختبر اليهود الرسول -صلى الله عليه وسلم- في هذا الأمر حينما أرسلت إليهم قريش مبعوثين هما النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط للبحث في قصة الرسول ونبوءته على اعتبار اليهود أهل كتاب وعلم ودراية، وقالا لهم إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا، فقالت لهم أحبار يهود: سلوه عن ثلاثة نأمركم بهن فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل، وإن لم يفعل فالرجل متقوّل فروا فيه رأيكم، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان أمرهم فإنه قد كان لهم حديث عجيب، وسلوه عن رجل طوَّاف قد بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه، وسلوه عن الروح وما هي، فإذا أخبركم بذلك فاتبعوه فإنه نبي وإن لم يفعل فهو رجل متقوّل. فسألت قريش النبي -صلى الله عليه وسلم- عن هذه الأسئلة الثلاثة فأنزل الله سبحانه سورة الكهف تجيب عن أسئلتهم. وهذا ما يجعلنا نسلم بصحة بعض روايات الإخباريين عنه بنسبة معينة.
وهذا الرجل الملك أعطاه الله وهيأ له كل أسباب القوة والملك وأوتي من كل شيء كما مكن لسليمان وبلقيس وأعطاهما من كل شيء {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}الكهف84..وتأمل دقة الألفاظ في هذه الآية؛ فمن التبعيضية دليل الاشتمال، كما قال عن سليمان {وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ}النمل16. حتى أن ما روي منسوباً إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- قرن بينهما في ملك الأرض، فعن ابن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: “ملك الأرض مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود، وسيملكها خامس من هذه الأمة”.
غير أنني لا أرجح أيضاً رواية أن بختنصر أحد الملوك الأربعة الذين ملكوا الأرض وأعتبرها رواية غير صحيحة ولا حصيفة؛ فبختنصر تمدد من بابل في العراق إلى الشام وملك الشام والعراق وجزءاً من تركيا وجزءاً مما تسمى اليوم إيران فقط ولم يصل إلى الجزيرة العربية ولا اليمن ولا مصر ولا أفريقيا، ولا أوروبا ولا آسيا الصغرى، وكل هذه البلاد إلى جانب الصين وما جاورها، كانت تسمى العالم القديم وهي المقصود ب”الأرض” كل الأرض في النصوص والتوثيقات السابقة.
وقد وصف القرآن الكريم ذا القرنين بصفة الملك الرحال والرجل الصالح العادل وأثنى عليه، حتى أن الله خيره في أمر قوم من الأقوام إما العذاب وإما الحسنى فاختار التوفيق بين الخيارين؛ من كان له جرم مشهود فالعذاب جزاؤه، ومن استسلم وآمن فله الجزاء الحسن.
قال تعالى في قصة الرجل في سورة الكهف: {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُم مِّنْهُ ذِكْراً} 83 {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}84 {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً }86 {قَالَ أَمَّا مَن ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً}87 {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاء الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً}88 {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً }89 {حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَّمْ نَجْعَل لَّهُم مِّن دُونِهَا سِتْراً}90 {كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً }91 {ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً }92 {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً }93 {قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً}94 {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}96 {فَمَا اسْطَاعُوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً}97 {قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً} الكهف98
وتمكين الأسباب معناه تهيئتها وإعطاؤه الوسيلة لذلك؛ فالسبب هو الوسيلة كما قال تعالى في آيات أخرى: {أَمْ لَهُم مُّلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ}ص10، وقال: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَّعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِباً وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ}غافر36، 37؛ أي أن الإنسان قد يعطى من الوسائل ما يمكن حتى الرقي في السماء وقطع المسافات الطوال، ولذلك قال عن ذي القرنين أنه بلغ مشرق الشمس ومغربها.
تسمية ذي القرنين:
إحتار بعض المفسرين والإخباريين كيف أن الرجل بلغ مغرب الشمس ومشرقها، وكم قطع من المسافات المكانية والزمانية؟! ولماذا سمي ذو القرنين؟! وهل كان له قرنان حقيقيان أم ظفيرتان من الشعر التي تسمى عند العرب قرنان؟ وبعضهم فسر القرنين ببلوغه من العمر مائتي عام (قرنين من الزمان) …إلخ؛ لأن غالبية الناس لا صدق أن يكون للإنسان قرنان فلذلك حاول بعض المفسرين التحايل على هذا الأمر.
ومما جاء عند ابن كثير في أمر التسمية، قال وهب بن منبه: كان ملكاً، وإنما سمي ذا القرنين لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس، قال: وقال بعض أهل الكتاب: لأنه ملك الروم وفارس. وقال بعضهم: كان في رأسه شبه القرنين، وقال سفيان الثوري عن حبيب بن أبي ثابت، عن أبي الطفيل قال: سئل علي -رضي الله عنه- عن ذي القرنين، فقال: كان عبداً ناصح الله فناصحه، دعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فأحياه الله، فدعا قومه إلى الله فضربوه على قرنه فمات، فسمي ذا القرنين. وكذا رواه شعبة عن القاسم بن أبي بزة عن أبي الطفيل، سمع علياً يقول ذلك. ويقال: إنما سمي ذا القرنين؛ لأنه بلغ المشارق والمغارب، من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب” (تفسير ابن كثير/ج5/ص189).
ونرجح أن الرجل فعلاً كان يمتلك قرنين حسيين كقرني الحيوانات، ففي زمن إعمال العقل والمنطق والمنهج التجريبي كزماننا لم يكن ليصدق أن الإنسان يمتلك قروناً حتى رأينا ذلك عياناً بياناً في بعض رجال اليمن ومنهم الرجل المعمر في شبوة صالح بن طالب صالح الجنيدي الذي تعمر أكثر من 160 عاماً، ورجل آخر أيضاً من محافظة الجوف واسمه علي عنتر، وتعمر أكثر من 130 عاماً، وتوفي بعد إزالة قرنه، ولا أستبعد أن يكون الرجلان من سلالة ذي القرنين المذكور، كما سنبين لاحقاً.
المسمى اللغوي في دلالة النسب:
وكما كان الأمر مثار جدل عند المفسرين والإخباريين عن قرني الرجل، فقد كان أمر انتسابه إلى أي البلاد أيضاً مثار جدل.
فقد نقل بعض المفسرين والإخباريين عن اليهود من إسرائيلياتهم المتناقلة أن ذا القرنين هو الإسكندر المقدوني، وأورد بن كثير هذا الرأي وهو ينكر النقل عنهم في أمر الرجل من رواية غريبة نكرة. قال: “وقد أورد ابن جرير ههنا، والأموي في مغازيه، حديثاً أسنده وهو ضعيف، عن عقبة بن عامر، أن نفراً من اليهود جاؤوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن ذي القرنين، فأخبرهم بما جاؤوا له ابتداءً، فكان فيما أخبرهم به: أنه كان شاباً من الروم، وأنه بنى الإسكندرية، وأنه علا به ملك في السماء، وذهب به إلى السد، ورأى أقواماً وجوههم مثل وجوه الكلاب…وفيه طول ونكارة، ورفعه لا يصح، وأكثر ما فيه أنه من أخبار بني إسرائيل”.
قال ابن كثير: “والعجب أن أبا زرع الرازي، مع جلالة قدره، ساقه بتمامه في كتابه (دلائل النبوة)، وذلك غريب منه، وفيه من النكارة أنه من الروم، وإنما الذي كان من الروم الإسكندر الثاني ابن فيليبس المقدوني، الذي تؤرخ به الروم، فأما الأول فقد ذكره الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل –عليه السلام- أول ما بناه وآمن به واتبعه، وكان معه الخضر -عليه السلام-، وأما الثاني فهو اسكندر بن فيليبس المقدوني اليوناني، وكان وزيره أرسطاطاليس الفيلسوف المشهور، والله أعلم. وهو الذي تؤرخ به من مملكته ملة الروم، وقد كان قبل المسيح -عليه السلام- بنحو من ثلاثمائة سنة، فأما الأول المذكور في القرآن فكان في زمن الخليل، كما ذكره الأزرقي وغيره، وأنه طاف مع الخليل بالبيت العتيق لما بناه إبراهيم – عليه السلام- وقرب إلى الله قرباناً” (تفسير ابن كثير/ج5/صـ189).
وحيث إن القرآن الكريم يصفه بالعدل ويذكر عنه صفاته الحميدة والقوة، وأنه رجل مؤمن ساعد أقواماً غرباء لا يعرفهم وهم لا يفقهون قولاً، ساعدهم في التصدي ليأجوج ومأجوج الذين أفسدوا في الأرض ببناء السد وليس قتالهم، ومع ذلك لم يأخذ الأموال من القوم لمساعدتهم بل ساعدهم بإمكانياته الذاتية {فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَن تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً}(الكهف94)، والخرج: الميزانية المالية، {قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً}(الكهف95)، فهذه الصفات تنفي نفياً قاطعاً أن يكون الإسكندر المقدوني الذي عرف عنه عبادته للأوثان أولاً، ثم عرف ببطشه وجبروته وسفكه للدماء وجمع الأموال ونهبها من مصادر مختلفة، وعرف عنه قيادته وحملاته العسكرية وتوسعاته لإنشاء امبراطورية خاصة به على أساس فلسفي بمشورة وزيره أرسطاطاليس ليس على أساس الإيمان والعدل بل على أساس من القانون الخاص به.
وكذلك الملك الفارسي قورش فقد كان يأخذ كل أموال المناطق التي يسيطر عليها ويقتل من يعترضه حتى أن هذه الصفات تتنافى مع صفات الرجل في القرآن. بينما لا توجد إشارة واحدة لمعارك ذي القرنين في النص القرآني كما ذكر عن غيره من الملوك والأنبياء سوى القانون القضائي الذي على أساسه يحكم بين الناس {قال أما من ظلم فسوف نعذبه…..}الآية.
كما يذكر بعض الباحثين، وعلى رأسهم أبو الكلام آزاد، أنه الملك الفارسي قورش، وبعضهم يذكر أنه الفرعون المصري أخناتون، وبعضهم يقول الفرعون أمنحوتب، وكل هؤلاء لم يكونوا مؤمنين ولا عادلين.
ولو كان هؤلاء جميعاً المقصودين أو أحدهم لذكر في الرواية المنسوبة إلى الرسول -صلى الله عليه وسلم- كما ذكر نمرود وبختنصر، قال: “ملك الأرض مؤمنان وكافران، فالمؤمنان: سليمان وذو القرنين، والكافران: بختنصر ونمرود”..
كما أن تسميته العربية واضحة وضوح الشمس ولا مراء في ذلك، حيث أن لفظ “ذا، ذو، ذي” من الأسماء الخمسة المعربة، والتي بمعنى (صاحب)، وتستعمل كثيراً في العربية وعند العرب، وتكثر المسميات بها في اليمن، وأكثر استعمالاتها عند الحميريين. وقد ذكرت في قصة ذي القرنين في حالتي النصب والجر، بحسب السياق المستعمل.
ومن الأسماء المشهورة ب”ذي، ذو”: ذو نواس الحميري، وذو الكلاع، وذو رعين، وذو أشرق، وذو يزن، وذو ريدان….إلخ. وقد وردت كثيراً في النقوش اليمنية.
وكثير ما تكون هذه هي أسماء أعلام وليست صفات أو ألقاباً إلا قليلاً؛ كما في حالة “ذو نواس الحميري” الذي كان اسمه يوسف أثأر أسأرن. وما عرف عن “ذي القرنين”، كما عند وهب بن منبه في كتابه “التيجان” بأنه “الصعب بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد بن عامر بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام ابن عابر بن شالخ بن أرفخشد بن سام بن نوح -عليه السلام، فهو خبر ورواية من أخبار الروائيين الذي لم تؤكده النقوش سوى التناقل الروائي؛ فلم يعرف عنهم تفصيلاً لأسمائهم في النقوش اليمنية بعد تلك الألقاب والصفات وما إذا كانت لهم أم أنها أعلام قائمة بذاتها، والنقوش سيدة الأدلة التي يأخذ عنها المؤرخون. وهناك اختلاف كثير في المدة الزمنية بين شعراء اليمن والعرب على عهد ذي القرنين، فمنهم من ذكره قبل بلقيس وسليمان ومنهم من ذكره في زمن الحميريين المتأخرين، وهكذا.
قال تبع الحميري:
قد كان ذو القرنين قبلي مسلماً ملكاً تدين له الملوك وتحشد
من بعده بلقيس كانت عمتي ملكتهم حتى أتاها الهدهد
وتنسب هذه الأبيات لأمية بن أبي الصلت، قال:
قَد كانَ ذو القَرنَينِ قَبلي مُسلِماً مَلِكاً عَلا في الأَرضَ غَيرَ مُعَبَّدُ
بَلَغَ المَشارِقَ وَالمَغارِبَ يَبتَغي أَسبابَ مُلكٍ مِن كَريمٍ سَيِّدِ
فَرَأى مَغيبَ الشَمسِ عِندَ مَآبِها في عَينِ ذي خُلُبٍ وَيأطِ حَرمَدِ
مِن قَبلِهِ بَلقيسُ كانَت عَمَّتي حَتى تَقَضّى مُلكُها بِالهُدهُدِ
وإذاً.. فالملك ذو القرنين يمني، من خلال التسمية اللغوية، والخلاف هنا في تفاصيل الأسماء بعد الألقاب؛ إن كانت ألقابا فقط ولم تكن تسميات.
وقد يكون (ذو القرنين) صفة لا إسما؛ فإن كانت صفة لملك معين تنتفي دلالة التسمية، فكثير ما ترد هذه الصفة مثل {شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ}غافر3 {غير ذي عوج} {ذي المعارج}…إلخ، لكن هناك دلالات لغوية أخرى توثق من نسب الملك إلى اليمن بعد تسمية “ذي، ذو، ذا”، وهي ألفاظ: عين حمئة، الصدف، سد، سبب، قطرا، مطلع. لكني لا أميل إلى أن يكون حميرياً بل أوسانياً؛ لأن الأوسانيين هم أول من عرف الملاحة البحرية.
والعين الحمئة –كما عند المفسرين: شديدة الحرارة، والطين، والصدف: شق الجبل، والسد: هو الحاجز، والسدود المعروفة عند اليمنيين منذ القدم، وقد اشتهروا ببنائها دون العالمين كنظام ري متطور وتطعيمها بالقطر (النحاس المذاب) للعمل على صلابتها، والسبب: هو الوسيلة والطريق.
كما إن القرآن الكريم كان كثير الاستشهاد بالأحداث والأماكن والشخصيات التي هي قريبة من مهبط الوحي في الجزيرة العربية كاليمن ومصر والعراق والشام كممالك عاد وثمود وفرعون والذي حاج إبراهيم في ربه (العراق)، وبيت المقدس وسليمان وداود وغير ذلك.
لكن عند ذكر الرحلة الشرقية لذي القرنين ذكر القرآن الكريم لازمة من لوازم عدم عربية البلاد التي رحل إليها بقوله {حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لَّا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً}الكهف 93؛ أي بحاجة إلى ترجمان، لكنه وحيث إن الله قد منحه من كل شيء سببا ومكن له في الأرض استطاع أن يفهمهم ويفهمونه؛ إذ إن كل الأقوام والبلاد القريبة والمحيطة بالجزيرة العربية على اختلاف لغاتهم السامية كانت صِلاتهم معروفة وحديثهم مع بعضهم دون ترجمة بين شعوبها وذلك لأن أصلها واحد.
ترحال ذي القرنين
عرف عن اليمنيين الهجرات القديمة واستكشاف الأراضي وإسكانها، وحيث إننا نقول إن ذا القرنين يمني، وقد أوتي الوسائل الخارقة للترحال والاستكشافات العلمية {إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً}(الكهف84) كون اليمنيين عبدوا الشمس والقمر فمن المرجح أن سبب ترحاله هو تتبع الشمس التي كانوا يعبدونها، ليعرف سرها ومكان مغربها ومشرقها، وحيث إنه كان مؤمناً موحداً فقد كان يريد إلزام الناس الحجة المنطقية ونشر عقيدة التوحيد، فلذلك تتبعها، وأعانه الله على ذلك وهيأ له الأسباب الخارقة للرحلة لقطع المسافات الطوال، ولا أستبعد تلك الأسباب أن تكون الملاحة البحرية إحداها وأهمها التي عرفها واكتشفها الأوسانيون الذين جابوا البحار وما وراءها.
وحيث إن الرحلة الأولى لذي القرنين كانت غرباً فقد اتجه إلى ملتقى البحرين في مضيق جبل طارق ومنه إلى المحيط الأطلسي الذي كانوا يطلقون عليه قديماً بحر الظلمات، وهناك حيث تغرب الشمس كما كانوا يعتقدون، كأقصى مكان تغرب فيه الشمس، وأظن أنه واصل رحلته وقطع المحيط وصولاً إلى ما تسمى اليوم أمريكا.
ومن الشواهد المرجحة لهذا الرأي انتقال الخطوط الأبجدية اليمنية غرباً ووجود الخط التصويري في جنوب ولاية كولورادو الأمريكية تعود لحوالي 800 عام قبل الميلاد، والتي اكتشفت عام 2000م وقد تكون تلك الفترة هي التي ذهب فيها ذو القرنين إلى هناك في تتبع مغرب الشمس. وتوجد نقوش وخطوط مماثلة لتلك الخطوط في محافظة شبوة وكذلك في حضرموت، والتي أهداني صورها بعض الشخصيات من شبوة للبحث فيها.
كذلك من الشواهد اليمنية في الترحال غرباً وجود الخط الذي يطلق عليه الأمازيغي ذي الأصل المسندي اليمني.
قورش الأخميني عند اليهود والفرس
يذهب بعض اليهود والفرس، وكذلك بعض الباحثين وعلى رأسهم العالم الهندي المسلم أبو الكلام آزاد، إلى أن ذا القرنين هو قورش الأخميني الفارسي مؤسس الامبراطورية الفارسية والذي خلص اليهود من الأسر البابلي. ويقول اليهود إنه مذكور عندهم في التوراة. وقال أبو الكلام أزاد العالم الهندي المسلم أن له أصلاً في سفر دانيال من التوراة إلى أصل التسمية : “ذي القرنين” أو “لوقرانائيم”، وما يشير كذلك إلى الملك الذي أطلقوا عليه هذه الكنية، وهو الملك “كورش” أو “خورس” كما ذكرت التوراة وتكتب أيضا “غورش” أو “قورش”، وأن له تمثالاً في إيران يصور القرنين على رأسه.(موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة/ مقال بعنوان “ذو القرنين شخصية حيرت المفكرين أربعة عشر قرنا و كشف عنها – أبو الكلام أزاد” للدكتور عبد المنعم النمر -رحمه الله- وزير أوقاف سابق وكاتب إسلامي مصري).
لكن التثمالين اللذين ذكرهما أبو الكلام آزاد لا يدلان على نفس الفترة الزمنية، وقد يكونا نحتا في زمن متأخر بعد نسج الأسطورة القورشية ممن يعظمونه ويعطونه الصفات الحميدة، بينما ترجح الشواهد أنه لم يكن مؤمناً وأقرب إلى الوثنية، رغم إحسانه إلى اليهود وتخليصهم من الأسر البابلي.
وقرأت أسفار دانيال عدة مرات ولم أجد ما يشير إلى ذلك، فقط يذكر دانيال رؤيته في منامه لوحش ذو قرون متعددة. وكذلك في سفر عزرا الذي فصل كثيراً عن قورش وأمره بإعادة بناء الهيكل (بيت الإله) في أورشليم لم يذكر أية صفة لقرون للملك قورش.
حتى أن أبا الكلام آزاد ذكر أنه لم يجد أية إشارة عند المؤرخين اليونانيين لقورش أنه ذو قرنين.
فاليهود امتدحوا قورش كثيراً في أسفارهم لكونه مخلصهم من الأسر البابلي فأضافوا إليه صفات كثيرة جعلته في مراتب الأنبياء، مع أن نبوخذ نصر نفسه آمن بإله اليهود -كما عند بعض نصوص دانيال- الذي صوره بصور مضطربة ومتناقضة، وقال دانيال إن نبوخذ نصر نادى في جميع مملكته باحترام وتعظيم دانيال ومن معه وأن إلهه إله الحق، كما قال عزرا وأشعياء في سفريهما عن قورش.
ولو عدنا للمرحلة التاريخية في عهد قورش فإنه وصل في حروبه إلى اليونان غرباً فقط ولم يتجاوز أكثر من ذلك، وكملك أقام امبراطورية على جماجم اليونانيين والآسويين والبابليين والكلدان، والأصل أن تكون له هناك مدونات من نقوش وغيرها، بل إن المصادر اليونانية تقول إن قمبيز الثاني الذي جاء بعد قورش بمدة استأذن ملك العرب (اليمن) ليمر عبر أراضيه بجيشه إلى غزو مصر، وجاء بعد قمبيز الملك داريا، فقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوتس أن الملك الفارسي (قمبيز الثاني 529-522ق.م) الذي كان يستعد لغزو مصر أرسل إلى ملك العرب [اليمن] يطلب منه أن يأذن له بالمرور في أرضه بأمان، وما إن استولى الفرس على مصر حتى أرسل قمبيز رسله إلى العرب للحصول منهم على التعاون وتأمين المرور، فأجابه إلى ذلك بعد أن تحالفا وتعاهدا” (اليمن في المصادر اليونانية/ أطروحة دكتوراه /أحمد صالح محمد العبادي- صـ69).
كما أن نهاية قورش تدحض وتتناقض مع صفات التمكين له في الأرض التي ذكرها القرآن في صفات ذي القرنين، “حيث كانت نهايته هزيمة أمام قبائل الساكا البربرية خلف نهري سيحون وجيحون في أواخر سنة 530 قبل الميلاد” (كورش الكبير/ د. أسامة عدنان يحيى- موقع أشور بانيبال للثقافة)..
وقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت أن ابنه وخليفته من بعده “قمبيز” كان دموياً وقاسياً ميالاً إلى التدمير والبطش وهو الذي غزا مصر سنة 525ق.م وأهلك إحدى حملاته الكبرى في الصحراء الغربية المصرية ولم يعمر طويلاً بعد عودته” (دروس من سورة الكهف/صـ207/ عبدالعزيز كامل).
ومعنى هذا أنه لو كان المقصود قورش بذي القرنين لبقيت تشريعاته وقوانينه العادلة أقل القليل إلى زمن أولاده وأحفاده ولم ينقلبوا عليها.
معظم الأحداث في سيرة قورش الأخميني كانت في الشرق والوسط ولم تصل إلى الغرب لا كأقصى نقطة ولا أدناها، فأكثر نقطة وصل إليها على حدود اليونان من تجاه تركيا؛ أي أنه لم يحط بالعالم القديم بل ببعضه، فبقيت مصر وأفريقيا كلها، ولم يستول على مصر إلا خليفته من بعده قمبيز، وبقيت اليمن التي كانت تحكم الجزيرة العربية كلها حتى أن خليفته قمبيز استأذن ملك العرب (اليمن) والذي يرجح على أنه يثع أمر أن يمر على أرضه للوصول إلى مصر.
وإذا نظرنا إلى الديانات فإن اليمنيين بشكل عام لم يعبدوا الأوثان وإنما عبدوا الكواكب والأجرام السماوية وكانوا متطلعين للأعلى في السماء، وهناك سبب وجيه أن يكون ذو القرنين يمني الجنسية متديناً بدين التوحيد فقد دخلت اليمن دين الإسلام والتوحيد على يد نبي الله سليمان بإسلام ملكتهم بلقيس، وليس من المعقول أن يرتد اليمنيون عن الإسلام بعد موت ملكتهم للتو؛ إذ ينبغي أن يأخذ خروجهم من التدين مسافة زمنية وبشكل تدريجي كما هو حال الارتداد عن الديانات في كل عصر، وهذا سبب كافٍ لأن يكون الملك المعني يمني من المؤمنين بعد بلقيس وسليمان.
ونعود هنا إلى سؤال وتحدي اليهود للرسول -صلى الله عليه وسلم- عن طريق وفد قريش..
فاليهود حينما سألوا الرسول لم يسألوا عن “ذي القرنين” وإنما سألوا سؤالاً عاماً دون أية مواصفات، فقد سألوا فقط عن “الرجل الطواف”، والقرآن هو الذي سماه “ذا القرنين” وفصل في أمره ما فصل.
من المعلوم أن التوراة أنزلت على موسى -عليه السلام- وإن كان ذو القرنين قد ذكر في التوراة، فإن بقيت على حالها أو بعض منها فإن قصة ذي القرنين مروية في هذه المخطوطات من الزمن القديم.
ومعلوم أن موسى -عليه السلام- لا يقل زمانه عن 1400 سنة قبل الميلاد؛ لأن المؤرخين والآثاريين يذكرون سليمان -عليه السلام- أنه كان في القرن التاسع قبل الميلاد وبين موسى وسليمان 500 عام كما يروى. وقد يكون فعلاً ذو القرنين قد عاصر إبراهيم -عليه السلام- وورث ملك نمروذ الذي تحطم في عهد إبراهيم، وشهد حكم اليمن توسعاً في ذلك الوقت على حساب ملك نمروذ؛ لأن ملك اليمن كان هو السائد على البلاد العربية وامتد حتى بلاد النهرين.
كما أن اليهود الذي يذكرون ذي القرنين على أنه الملك الأخميني الفارسي قورش في بعض أسفارهم المكتوبة على أنها (توراة) بعد حوالي ألف عام من موسى، وبذلك حبكوا القصص ونسبوها للملك قورش الأخميني الذي يعظمونه ويعطونه كل الصفات الحميدة كونه خلصهم من الأسر الذي وقعوا فيه في عهد نبوخذ نصر البابلي، وبعد تلك المسافة الزمنية بين موسى واكتب الأسفار التي دونت لا جعلها “توراة”، أما إن وردت قصته واسمه في التوراة المنزلة على موسى فإن ذلك معناه قبل موسى بزمن، وإذاً: زمن مَن مِن الملوك والممالك والأنبياء الذين يحملون الرسالة السماوية وآمن بها الملك ذو القرنين كان عصره؟ وكذلك ما بين موسى وإبراهيم عليهما السلام حوالي ألف عام؛ لأن المؤرخين رجحوا أن يكون زمن إبراهيم -عليه السلام- 2400ق.م والذي يذكر أن ذا القرنين كما في بعض الروايات عاصره وطاف بالبيت معه.
لكنني أميل أن زمن ذي القرنين كان قبل سليمان -عليه السلام- لأن سليمان قطع أمر الملك العظيم بكل تمكينه ومعجزاته بطلب من الله سبحانه أن يهبه ملكاً لا ينبغي لأحد من بعده، فاستجاب له ربه.
عين حمئة:
وقع المفسرون القدامى والمحدثون في جدل ما معنى العين الحمئة وأين توجد.. وقد جاء في تفسير الطبري: حدثنا الحسين بن الجنيد ، قال : حدثنا سعيد بن سلمة ، قال: حدثنا إسماعيل بن علية ، عن عثمان بن حاضر ، قال : سمعت عبد الله بن عباس يقول : قرأ معاوية هذه الآية ، فقال : “عين حامية”، فقال ابن عباس : إنها عين حمئة ، قال : فجعلا كعبا بينهما ، قال: فأرسلا إلى كعب الأحبار ، فسألاه ، فقال كعب : أما الشمس فإنها تغيب في ثأط ، فكانت على ما قال ابن عباس، والثأط: الطين. واتخذت هذه شبهة عند الملحدين.
لكن من الباحثين الجدد ومنهم الدكتور عبدالعزيز كامل من المحدثين في كتابه دروس من سورة الكهف يقول عنها أنها في بحر قزوين في باكو أذربيجان وهي عيون النفط المنتنة، والعرب يسمونها البلاد المنتنة بسبب النفط الفائض السطحي، وأبو الكلام آزاد يقول إنها في خلجان وشواطئ الأناضول، والدكتور مصطفى محمود والدكتور عبدالدائم الكحيل يقولان أنها في جزر هاواي الأمريكية أقصى نقطة في الغرب حيث العيون البركانية الحارة الملتهبة..
وجدها تغرب في عين حمئة: ليس المقصود على وجه الحقيقة كون الشمس تكبر الأرض بآلاف المرات فلا يعقل أن تغيب في عين حمئة صغيرة عند مغرب الشمس في أقصى الأرض، وإنما هو التصوير لما يراه الإنسان أثناء الغروب بعينه المجردة؛ فإذا كنت على بحر ترى الشمس تغيب في البحر كأنها تغوص فيه، وإذا كنت قريباً على نهر أو بحيرة وأنت ترى غروب الشمس تراها وكأنها تغطس فيه، ولكن هو التصوير المعنوي لتقريب الصورة للإنسان لأن الحقيقة فوق مستوى عقله وإدراكه وبعيدة عنه تريليونات الكيلو مترات فلا يدركها أبداً، وهذا ما رآه ذو القرنين كرؤيا ذهنية بشرية وليس على أن الشمس حقيقة تغرب في تلك العين.
ولكن الصورة الذهنية القريبة أن ذي القرنين بلغت به الوسيلة بعيداً جداً ليرى أين تغرب الشمس، وهذا يوحي أن للرجل اهتماماً بالعلم كذلك، فقد كانت أهم العلوم عند القدامى علوم الفلك والكواكب والشمس والقمر خاصة وقد أثبت بعلمه أنه يستطيع بناء سد لا يمكن هدمه أو ثقبه من قبل قوم يأجوج ومأجوج تلك الأقوام الفاسدة الطاغية.
سد حديدي
كان من أسباب التمكين للملك ذي القرنين هو العلم، وقد قام ببناء سد حديدي ممزوج بالنحاس لزيادة تماسكه {آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً}الكهف96. وهذا الأمر يدل على أشياء متعددة؛ منها أن المكان كان كثير التواجد فيه عنصرا الحديد والنحاس فأمر بإحضارهما على الفور، وإلا فإن البحث سيستغرق وقتاً طويلاً لجمع الحديد والنحاس من الجبال والأراضي المختلفة، وطيلة هذه الفترة بالتأكيد سيظهر يأجوج ومأجوج وسيلتهمون ويقضون على كل شيء؛ إذاً فالعنصران متوفران بكثرة.
وأيضاً كم من الوقت سيستغرق بناء السد الحديدي والكلام يدور حول “صدفين”: أي شقي جبلين متقابلين في مضيق معين خاصة وأن عملية إذابة الحديد والنحاس بعد الجمع أيضاً سيستغرق وقتاً طويلاً؟ وما هي الآلات والوسائل وحجم النار ومقدار حرارتها التي تذيب حديد وادٍ كامل حتى بلوغ قمتي الجبلين؟ وخلال هذه المدة أين كان يأجوج ومأجوج لم يخرجوا ويتخلصوا من القوم أمامهم؟ والم يكونوا يعلمون ببناء السد فيحتالون على مكانه للعبور من مكان آخر؟
ثم لماذا لم يقاتلهم ذو القرنين وفقط قام ببناء السد؟ ألم تكن لديهم قوة لمواجهتهم إذا كان ملك حرب كالملوك العاديين؟
ثم لماذا فقط بناء السد من الحديد والنحاس ولم يكن من الحجارة والصخور العظيمة التي تحول بين هؤلاء القوم وبين يأجوج ومأجوج؟
كل هذه من الوسائل الخارقة للعادات والزمن لم يؤتها أحد من قبل ذي القرنين، وفي هذا دليل آخر على أنه كان قبل سليمان -عليه السلام- الذي قال: {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لَّا يَنبَغِي لِأَحَدٍ مِّنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ}ص35، فلو كان ذو القرنين من بعد سليمان فإنه لن يؤتى هذه الوسائل لأن الله استجاب لسليمان في طلبه وشرطه إلا أن تكون بقيت قليل من لوازم الملك – والله أعلم.
فقد كانت من الوسائل الخارقة لسليمان الريح التي تحمله إلى حيث يشاء بسرعة قياسية، بل إنه أعطي اختراق الزمن والمسافات بحيث أن يأتيه خادم من الجن بعرش بلقيس في طرفة عين {قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي}النمل40.
وهناك من الوسائل الخارقة ما الله بها عليم كوسيلة الإسراء والمعراج بالنبي -صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى بيت المقدس ثم إلى السموات العلى وكل ذلك في أقل من ليلة كاملة.
إذاً فوسيلة ذي القرنين هي إحدى هذه الوسائل الناقلة له غرباً وشرقاً وشمالاً، مع العلم الذي أوتي به، والقوة التي جعلته يبني السد الحديدي في أقل زمناً. حتى ألفاظ الآية في بناء السد لم يذكر اللفظ “ثم” مطلقاً، فقد ذكر فاء التعقيب المباشر، وعند اللغويين تكون “ثم” للتراخي الزمني والمسافة الزمنية البعيدة، والفاء التعقيبية تكون للمباشرة والتعقيب القريب والتراتبية المتوالية.