تاريخ النقاب .. عادة قديمة تناوبت عليها الأمم
ليس لحديث اليوم علاقة بآراء الفقهاء، فهي معروفة ومبسوطة في كتب ومباحث عديدة ومشهورة منذ بداية التدوين حتى اليوم. وإنما يقتصر على جانب تاريخي فقط.
شاع عند البعض أن غطاء الوجه والنقاب والبرقع عادة سعودية، أو على حد تعبير بعضهم “عادة وهابية”، وأنها انتشرت بسبب السعوديين في العالم الإسلامي. ثم فجعت بسماع كلام لبعض علماء الدين ممن تسنموا أعلى المناصب الدينية في بلادهم يلمحون إلى ذلك. وأحب أن أوضح في البداية أن تأسيس الدولة السعودية الأولى ابتدأ في عام 1157هـ/ 1744م، وظلت هذه الدولة أزيد من 30 سنة محصورة في نطاق إقليمي محدود، ولم تتوسع إلا بعد ذلك، ثم بدأت أخبار هذه الدولة الناشئة تنتشر شيئا فشيئا في دول ومناطق أخرى، وبدأ مع ذلك الانتشار تأثيرها الفكري الذي تمركز في جانبين: الأول ديني وينصب على تنقية الفكر الإسلامي من الشوائب التي علقت به، وإعادته إلى ما كان عليه رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وصحابته وسلف الأمة. والثاني سياسي يهدف إلى استقلال العرب، لا أن تفرض عليهم وصاية. ومن الواضح أنه ليس لهذين الجانبين علاقة بموضوع النقاب.
وسيتضح من النصوص الآتية أن النقاب معروف قبل ظهور الإسلام، كما أنه معروف ومنتشر في أنحاء العالم الإسلامي قبل قيام الدولة السعودية.
النقاب والبرقع في الجاهلية
إن من يعرف تراثنا وتاريخنا يعلم جيدا أن غطاء الوجه والبرقع واللثام معروفة عند العرب منذ الجاهلية، واستمرت بعد الإسلام. قال عنترة بن شداد:
إن تغدفي دوني القناع فإنني
طب بأخذ الفارس المستلئم
والإغداف: إرخاء القناع على الوجه.
وللشاعر الجاهلي الشهير النابغة الذبياني بيت سائر يقول فيه:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
فتناولته واتقتنا باليد
والنصيف كما جاء في “لسان العرب” هو: “ثوب تتجلل به المرأة فوق ثيابها كلها، سمي نصيفا; لأنه نصف بين الناس وبينها فحجز أبصارهم عنها، قال: والدليل على صحة ما قاله قول النابغة: سقط النصيف، لأن النصيف إذا جعل خمارا فسقط فليس لسترها وجهها مع كشفها شعرها معنى”.
كان العاشقان توبة بن الحمير وليلى الأخيلية، وهما من أهل القرن الهجري الأول، يلتقيان بين حين وآخر، ومن عادة ليلى أن تلبس البرقع عند لقائهما، ففطن لذلك بعض أهلها، ورصدوا لتوبة في موعد لقائه بها، يريدون الفتك به، وخشيت عليه ليلى، وأرادت أن تنبهه للخطر المحدق به، فجاءت إلى مكان اللقاء وهي سافرة دون أن تلبس البرقع، فاستراب توبة من ذلك، وشعر أن وراء الأكمة ما وراءها، وعرف أنها فعلت ذلك تنبيها له، فهرب، وقال قصيدة شهيرة من ضمنها هذا البيت:
وكنت إذا ما جئت ليلى تبرقعت
فقد رابني منها الغداة سفورها
وتذكر معاجم اللغة أن البرقع خاص بنساء البادية، جاء في لسان العرب: “قال الليث: جمع البرقع البراقع، قال: وتلبسها الدواب وتلبسها نساء الأعراب وفيه خرقان للعينين”.
وجاء في “عيون الأخبار” لابن قتيبة” “أبو الغصن الأعرابي قال: خرجت حاجا، فلما كنت بقباء تداعى أهله وقالوا: الصقيل الصقيل! فنظرت وإذا جارية كأن وجهها سيف صقيل، فلما رميناها بالحدق ألقت البرقع على وجهها، فقلنا: إنا سفر وفينا أجر، فأمتعينا بوجهك، فانصاعت وأنا أعرف الضحك في وجهها وهي تقول:
وكنت متى أرسلت طرفك رائدا
لقلبك يوما أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كله أنت قادر
عليه ولا عن بعضه أنت صابر”.
وفي “تاج العروس” جاء عن النقاب أنه “ما تنتقب به المرأة، وهو القناع على مارن الأنف، قاله أبو زيد. والجمع نقب. وقد تنقبت المرأة، وانتقبت. وفي التهذيب: والنقاب على وجوه. قال الفراء: إذا أدنت المرأة نقابها إلى عينها فتلك الوصوصة، فإن أنزلته دون ذلك إلى المحجر فهو النقاب، فإن كان على طرف الأنف فهو اللفام. وفي حديث ابن سيرين: “النقاب محدث” أراد: أن النساء ماكن ينتقبن، أي: يختمرن. قال أبو عبيد: ليس هذا وجه الحديث، ولكن النقاب عند العرب هو الذي يبدو منه محجر العين؛ ومعناه: أن إبداءهن المحاجر محدث، إنما كان النقاب لاصقا بالعين، وكانت تبدو إحدى العينين، والأخرى مستورة والنقاب لا يبدو منه إلا العينان. وكان اسمه عندهم الوصوصة، والبرقع وكان من لباس النساء، ثم أحدثن النقاب بعد”.
هل النقاب عادة عربية؟
يرى بعض الكتاب الذين لم يتعمقوا في البحث أن النقاب عادة عربية أو بدوية، لكن باحثا مصريا تعمق في دراسة هذا الموضوع وهو محمود سلام زناتي، وأصدر كتاب “قصة السفور والنقاب واختلاط وانفصال الجنسين عند العرب” يرى رأيا آخر فيقول: “كانت الفكرة السائدة هي أن الإسلام فرض النقاب على النساء، وحظر على النساء الاختلاط بالرجال. وقد راعني أنني كلما أوغلت في البحث تكاثرت أمامي الشواهد الدالة على أن النقاب ليس نظاما عربيا”.
المسيحيات منقبات
زار المؤرخ الرحالة ابن جبير (ت 614هـ) جزيرة صقلية، ووصف زي النساء المسيحيات في مدينة أطرابنش قائلا: “وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين: فصيحات الألسن، ملتحفات، منتقبات”. وقد كانت جزيرة صقلية حينها تحت حكم المسيحيين، ولا أدري هل لبس المسيحيات للنقاب تقليدا للمسلمات أم أنه من الموروث الديني لدى المسيحيين. إذ تذكر الدكتورة هدى درويش في كتابها “حجاب المرأة بين الأديان والعلمانية” أن النقاب والبرقع معروف في الديانة اليهودية، وتورد نصوصا عديدة من التوراة تدل على ذلك، كما تورد نصوصا عن المسيحية في الحجاب والغطاء. وينقل قاسم أمين في كتابه الشهير “تحرير المرأة” عن لاروس قوله: “كانت نساء اليونان يستعملن الخمار إذا خرجن ويخفين وجههن بطرف منه كما هو الآن عند الأمم الشرقية.. ترك الدين المسيحي للنساء خمارهن وحافظ عليه عندما دخل في البلاد فكن يغطين رؤوسهن إذا خرجن في الطريق وفي وقت الصلاة. وكانت النساء يستعملن الخمار في القرون الوسطى، خصوصا في القرن التاسع فكان الخمار يحيط بأكتاف المرأة ويجر على الأرض تقريبا. واستمر كذلك إلى القرن الثالث عشر حيث صارت النساء تخفف منه إلى أن صار كما هو الآن نسيجا خفيفا يستعمل لحماية الوجه من التراب والبرد. ولكن بقي بعد ذلك بزمن في إسبانيا وفي بلاد أمريكا التي كانت تابعة لها”، ثم يعلق قاسم أمين قائلا: “ومن هذا يرى القارئ أن الحجاب الموجود عندنا ليس خاصا بنا ولا أن المسلمين هم الذين استحدثوه، ولكن كان عادة معروفة عند كل الأمم تقريبا”. وما ذكره قاسم أمين والدكتورة هدى درويش يؤيد رأي الأستاذ محمود زناتي السابق؛ إذ من الواضح أن حديث لاروس كان عن لباس نساء اليونان قبل المسيح – عليه السلام، وأن المسيحية جاءت وحافظت على الخمار.
في كتب التراث
يرد ذكر النقاب في الأحاديث الشريفة، ولعل أشهرها ما ورد في صحيح البخاري: “ولا تنتقب المرأة المحرمة”. ومن الأخبار الشهيرة في هذا المجال والمعتمدة في كتب الفقه ما روي عن الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – أنه كان ينهى الإماء والجواري عن لبس النقاب وتغطية الوجه والشعر، كي لا يتشبهن بالحرائر. ونلحظ كثيرا في كتب التراث والأدب أن الجواري لم يكن يلبسن النقاب أو يغطين وجوههن.
تزخر كتب التراث العربي منذ نشأة التدوين بروايات وقصص لا عد لها ولا حصر تظهر فيها المرأة وعليها غطاء الوجه أو البرقع في حواضر الدول الإسلامية ولا سيما العربية منها، ولا شك أن السائد بين النساء في هذه الحواضر، وخلال القرون الماضية هو غطاء الوجه قبل وبعد قيام الدولة السعودية الأولى. إلا أن بعض المناطق البعيدة عن الحواضر العلمية والدينية تختلف، إذ تظهر فيها المرأة بلباس مختلف، ويغلب عليها عدم ستر الوجه، وأحيانا عدم ستر أجزاء من الجسد.
يورد ابن داود الأصفهاني في “الزهرة”، وابن طيفور في “بلاغات النساء” أن الأصمعي (ت 216هـ) قال: دخلت المقابر فإذا أنا بامرأة تنوح على زوجها وهي سافرة فلما رأتني غطت وجهها ثم كشفته فقالت:
لا صنت وجها كنت صائنته
أبدا ووجهك في الثرى يبلى
يا عصمتي في النائبات ويا
ركني القوي ويا يدي اليمنى
ويورد أبو الفرج الأصفهاني وغيره هذه الرواية الشهيرة: “حجت عاتكة بنت معاوية بن أبي سفيان، فنزلت من مكة بذي طوى. فبينا هي ذات يوم جالسة وقد اشتد الحر وانقطع الطريق، وذلك في وقت الهاجرة، إذ أمرت جواريها فرفعن الستر وهي جالسة في مجلسها عليها شفوف لها تنظر إلى الطريق، إذ مر بها أبو دهبل الجمحي، وكان من أجمل الناس وأحسنهم منظرا، فوقف طويلا ينظر إليها وإلى جمالها وهي غافلة عنه، فلما فطنت له سترت وجهها وأمرت بطرح الستر وشتمته”. وكثيرا ما نقرأ في المصادر الأدبية جملة غطت وجهها، وسترت وجهها، عندما تبصر المرأة غريبا قادما، أو رجلا يرمقها وهي غافلة ثم انتبهت.
حجة الإسلام
وكما سلف فإن النصوص في كتب التراث في هذا المجال لا تحصى. وقبل أزيد من 950 سنة ألف العالم الكبير حجة الإسلام أبو حامد الغزالي (ت 505هـ)، كتابه الشهير “إحياء علوم الدين”، وتحدث عن النقاب فقال: “لم يزل الرجال على مر الزمان مكشوفي الوجوه والنساء يخرجن منتقبات”. والغزالي يتكلم عن حالة سائدة في العالم الإسلامي في زمنه وقبل زمنه بعقود وقرون.
ابن تومرت والسفور
محمد بن تومرت، الملقب بالمهدي (ت 524هـ) مؤسس دولة الموحدين الشهيرة. وكان قبل ذلك قد قام برحلات عديدة لنشر فكره، وحين زار مدينة مراكش المغربية رأى أخت علي بن يوسف بن تاشفين أمير دولة المرابطين، وكانت “حاسرة قناعها على عادة قومها الملثمين في زي نسائهم، فوبخها، ودخلت على أخيها باكية لما نالها من تقريعه”. وهذا اللوم من ابن تومرت لها لأنها كشفت وجهها ولم تغطه، ويتضح من كلام ابن خلدون السابق، والنص من تاريخه، أن عادة نساء المرابطين كشف الوجه. وتعلق زينب العاملي حول هذه النقطة قائلة: “قبيلة الملثمين الضاربة في صحاري إفريقيا وهي القبيلة التي تشكل منها دولة في بلاد المغرب، ونساء هذه القبيلة إلى الآن يجلن سافرات الوجوه”. والملثمون اليوم هم قبيلة الطوارق، وقد عرفوا بلبس اللثام، أما نساؤهم فيكشفن الوجه.
في آسيا الوسطى
تذكر نعمة علي مرسي في كتابها “المرأة المسلمة في آسيا الوسطى خلال القرنين الخامس والسادس الهجريين” أن نساء آسيا الوسطى يخرجن إلى الطرقات والأسواق بملابس محتشمة، ولا يظهر منهن سوى العينين فقط. وآسيا الوسطى تضم اليوم دول أوزبكستان وتركمانستان وكازاخستان وطاجكستان وقيرغيزستان.
ابن بطوطة
ويختلف الأمر عند الرحالة ابن بطوطة (ت 779هـ) فهو حينا يصف نساء بعض المدن الإسلامية بأنهن يغطين وجوههن، فعندما وصف نساء مدينة شيراز قال إنهن “يخرجن متلحفات متبرقعات، فلا يظهر منهن شيء”. بينما يصف نساء الأتراك بأنهن لا يغطين وجوههن. يقول: “وأقام بها الأمير حسين مدة ثم أراد القدوم على ملك العراق، فقبض على أبي إسحاق بن محمد شاه ينجو، وعلى أخويه ركن الدين ومسعود بك وعلى والدته طاش خاتون، وأراد حملهم إلى العراق ليطالبوا بأموال أبيهم فلما توسطوا السوق في شيراز كشفت طاش خاتون وجهها وكانت متبرقعة حياء أن ترى في تلك الحال. فإن عادة نساء الأتراك أن لا يغطين وجوههن، واستغاثت بأهل شيراز، وقالت: أهكذا يا أهل شيراز أخرج من بينكم وأنا فلانة زوجة فلان؟ فقام رجل من النجارين يسمى بهلوان محمود، قد رأيته في السوق حين قدومي على شيراز فقال: لا نتركها تخرج من بلدنا، ولا نرضى بذلك. فتابعه الناس على قوله وثارت عامتهم ودخلوا في السلاح وقتلوا كثيرا من العسكر وأخذوا الأموال وخلصوا المرأة وأولادها”. ويسجل ابن بطوطة الملاحظة نفسها عندما نزل في مدينة العلايا، ويقول إنها “أول بلاد الروم”، ويقصد تركيا، ويبين أن نساء هذه المدينة لا يلبسن الحجاب، وفي موضع ثالث رأى امرأة تركية في السوق كاشفة وجهها فعلق أن عادة نساء الأتراك عدم تغطية الوجه. ولكننا نتعجب عندما يصف لباس نساء بعض مدن إفريقيا وشرق آسيا، ويتضح من وصفه أنهن لا يلبسن الحجاب، بل إن لباس بعضهن لا يستر الجسد كاملا. وكلام ابن بطوطة عن لباس نساء الأتراك يوافق ما ذكره الرحالة ابن فضلان.
تلبس البرقع ولا تستر جسدها
يعثر القارئ في كتب التراث والرحلات على غرائب تتعلق بزي المرأة في بعض المناطق النائية في الدول الإسلامية، فقد وصف الرحالة ابن جبير لباس نساء أحد الموانئ الإفريقية بأنه خرقة لا تكاد تستر عورتها. وفي صحراء إفريقية أخرى يصف الرحالة المغربي العبدري (ت 700هـ) لباس نسائهم وصفا عجيبا فيقول: “ومن العجب عندهم أن كل امرأة لا بد لها من خرقة تسدلها على وجهها يسمونها البرقع، وهي تتخلل الناس مكشوفة الرأس والأطراف، حافية القدمين، لا تهتم بستر ما سوى وجهها، كأن ليس لها عورة سواه”.
نساء متبرجات
على الرغم من كثرة النصوص التي تدل على انتشار النقاب في ديار المسلمين إلا أن بعض المناطق قد تخلت عن ذلك، وقد وصف أبو بكر بن العربي (ت 543هـ) في رحلته نساء كثير من القرى بأنهن متبرجات. وابن العربي يتحدث عن نساء حرائر، أما الجواري فمن المعروف أن الغالب عليهن في كل الحواضر عدم تغطية الوجه.
العثمانيون وغطاء الوجه
المذهب الرسمي للدولة العثمانية هو مذهب الإمام أبي حنيفة، وقد تشددت الدولة العثمانية في غطاء الوجه تشددا لم تعرفه الدول الإسلامية التي سبقتها، فأصدرت نظاما يقضي بتغطية المرأة وجهها عند خروجها من المنزل، ورأت أن فعل ذلك يدخل في الحفاظ على التنظيم الاجتماعي للدولة. وكان البرقع مستخدما لدى الأتراك والعثمانيين من قبل ذلك، واشتهر منه نوع اسمه الياشمك “وهو قطعة من الحرير أو القطن الأسود يغطي الوجه من تحت العينين وينسدل أحيانا حتى الركبة”، كما تلبس نساؤهم القناع الشبكي الذي يغطي الوجه كله. وكان خروج المرأة من دون هذا اللباس دليلا على فقرها، كما كانت الراقصات يظهرن كاشفات الوجوه. وفي أواخر القرن الثالث عشر الهجري أصدر السلطان عبدالحميد الثاني أمرا على الحكومة بوجوب ارتداء المرأة “الحجاب الشرعي الكامل بالنقاب”، ثم أصدر مجلس الوزراء قرارا بذلك مع تكليف الشرطة بفرض تطبيق هذا القرار على النساء، ومنعهن من لبس النقاب الخفيف أو الشفاف، وإجبارهن على لبس نقاب سميك لا يظهر معالم الوجه. وقد نشر هذا القرار في الصحف، وعلق في الشوارع.
الاقتصادية