يمنٌ آخر كان ينتظرني في “فيصل”
صدام أبو عاصم
قبل حوالي عامين، قطعت على نفسي عهدا بأن لا أزور أي بلد عربي. وإن قررت زيارة اليمن يوما، سأطير إلى جيبوتي وأسبح في البحر وصولا إليها.
العهد الذي كان حينها على شاكلة تغريدة فيسبوكية نزقة تزامن مع تصرف ما مغرور لموظفي إحدى سفارات الدول العربية في سويسرا. ذكّرني صديق بذلك بينما نشرت لي صور تفيد أنني أتوفر في القاهرة.
لحسن الحظ، جاء وقت التذكير وأنا في حي “فيصل”. وتحديدا في كافتيريا “الشجرة” نجهز على حرضة الفاصوليا وبقايا الخبز الطاوة. قلت له على الفور: من قال لك أنني لست في اليمن أصلا.
أنا لم أحنث العهد قط. فأنا فعلا الآن في اليمن. في تفاصيله وتضاريسه وسمرة جباه أبنائه وطيبة قلوبهم وفضولهم البريء اللامحدود. كنت أتنفس حينها جودة ما يصنعون، وأغتنم فرصة الاستجمام في أجراس اللهجة التي حرمت منها لحوالي 8 سنين. في آخر أيامي بالقاهرة التي زرتها لمهمة دراسية في سبتمبر الماضي، تعشيت في مطعم يمني وأكلت بعدها الهريسة الساخنة.
كان معي صديق يمني وصديقة مصرية وأخرى سويسرية. كنت أتحدث مع صاحب المحل بينما الصديقتين يتحدثن بالإنجليزية ويأكلن الهريسة بحب. اقترب منهن أحدهم وهو يقول لأصحابه: والله ياعويله يتلكمين انجليزي ويأكلين هريسة.
كان يلتفت إليّ مشدوها وهو يسمعني أتكلم يمني قح ويسألني بطيبة لا متناهية: هذين ايش هن؟ أمانة ماهن؟ ضحكت حينها من كل قلبي. ربما بدا ذلك غريبا عليه، لأن تلك الأحياء غالبا مقفلة على الرجال كما في اليمن عادةَ. وقد لاحظت ذلك نانيا، زميلتي السويسرية، إذ قالت أين النساء، لم أر امرأة هنا تأكل أو حتى تمشي في الحي المكتظ بالرجال فقط. قال لها عبد الواحد: النساء في البيوت، وأنا أتبعت بالعربي “معززات مكرمات”. قلت ذلك وغيرت الحديث بسرعة لأتحاشى الترجمة والجدل الفيمينستي. ربما أسهم اتصال صديق آخر كان ينتظرنا في مقهى قريب في تغيير وجهتنا والأفكار.
كانت المقاهي إحدى الأماكن المفضلة للُقيا الأصحاب، وما أكثرهم في القاهرة بعد أن رمت رياح الحرب بنا جميعا، في دروب المنفى. وكانت القاهرة نعم المدينة الأم التي فتحت أذرعها لليمنيين الهاربين والمرضى والمعدمين بكل حب.
التقيت هناك بالعشرات من الطيبين فيما لسوء الحظ لم أتمن من رؤية الجميع. لقد حز هذا في نفسي عندما غادرت. لأني رجل أحب الناس ولطالما حرمت في سويسرا من هذه النعمة.
كان أسبوعا حافلا باللقاءات، بالزيارات، بالذكريات والحشوش والضحك. كنت أحتاج هذا الوقت الذي جاء بعد أسبوعا حافلا بالزيارات المخطط لها في القاهرة، ضمن برنامج “رحلة علمية” رفقة مجموعة من طلاب دراسات الشرق الأوسط في جامعة بيرن بسويسرا.
في أسبوع الزيارة الأول تعرفنا على القاهرة التي تعد بمثابة خارطة حية للتأريخ الإنساني والإسلامي بكل مراحله. فهي أشبه بمتحف مفتوح يحوي عالماً مصغر بجبروته، بتعقيداته وتداخلاته الثقافية والدينية. كيف بمدينة تسمى أم الدنيا ان لا تحمل عبق من أقدم تأريخ إلى أحدثه. في أحياء مصر القديمة تعرفنا على آثار من حكموا يوما ورحلوا. كان ما خلفوا شهادة على أن القاهرة كان وماتزال هي البوصلة في المنطقة ككل.
زرنا كل المساجد والمتاحف والقلاع للقاهرة المملوكية والفاطمية والعثمانية، زرنا كنائس مصر القبطية وتجولنا في تأريخ تسامح وتعدد المدينة العربية الأشهر قبل وبعد الإسلام. وجدنا أنفسنا في النهاية في أعمق نقطة في بئر التأريخ حيث الأهرامات والتماثيل شاهدة على أن الحياة ابتدأت هنا، فلا يمكن لمحب للتأريخ إلا التغني بالآثار الفرعونية وبعظمتها وصنعتها التي لا يصدقها عقل.
رافقتنا في الرحلة الدكتورة سالي، المرشدة السياحة المختصة بالحضارة المصرية القديمة، فيما الدكتور أشرف حسان كان نعم المعلم والمعين. فهو يدرس في معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة بيرن، ويدير الندوة الخاصة بالقاهرة، إذا جاء برنامج الزيارة الميدانية للقاهرة كجزء من هذه الندوة.
بعد كل ذلك التدرج في سلم التاريخ والتدحرج بأريحية في حدقاته رغم سخونة الجو، وجدتني أنزاح لا إراديا إلى مصر المعاصرة، قاهرة النضال وثورات التحرر وبوصلة العروبة التي يصلي لها دوما الفؤاد. في قلعة صلاح الدين التي تطل على جانب من مصر القديمة، والتي فيها مسجد محمد علي باشا، كان ينتحي منا جانبا، المتحف الحربي القومي. ولجناه وإذ بي أتخطى بعجل كل أقسامه الفرعونية وزمن الفتوحات والعصر المملوكي والفاطمي والعثماني وصولا إلى زمننا هذا. ذهبت إلى ركن ثورة يوليو وحرب أكتوبر، والأهم من كل ذلك وجدتني أمام بوابة مكتوب عليها “حرب اليمن”. يتموضع في زاوية ما بداخلها، وفي فاترينا زجاجية، تمثال الخالد أبو خالد، عراب ثورات التحرر العربية ضد الاستعمار وأحد أهم رموز العروبة على الإطلاق.
وجدت في هذا الجزء مقتنيات ورسائل وأسلحة وخرائط عسكرية للحرب التي خاضها اليمنيون وبمساندة من الجيش المصري ضد قوات الملكية وحلفائها في ستينيات القرن الماضي. شدتني رسائل الشكر الرسمية للواء القاضي، مسؤول القوات المصرية في اليمن. تزامنت هذه الزيارة في شهر الثورة اليمنية ضد الإمامة التي تحاول فاشلة أن طل برأسها من جديد، بالتحديد، قبل أيام من الذكرى الـ61 لميلاد اليمن الجديد.
في الأسبوع التالي، للزيارة العلمية للمتاحف حاولت أن أستعيد بعض ما تعلمناه من مصر وعن مصر. فهي المُصدّر لكل فن وفكر. صباحا كنت اتناول قهوتي في المقهى ذائع الصيت “مقهى ريش”. وفي المساء، كنت أنسحب غالباً مع أصدقاء أو لمفردي لأدخن الإرجيلة في مقهى يطل على النيل.
كان يحلوا لي أغني رائعة الموسيقار عبد الوهاب: امتى الزمان يسمح يا جميل واسهر معك على شط النيل”، في المقطع الثاني إذ يقول: الجو كله سكون والورد نام على الغصون” قلت في نفسي هذه أكبر كذبة في تأريخ الشعر الغنائي. لا يوجد شيء في القاهرة اسمه سكون. الجميع مستنفر ضجر حتى أحجار المنازل غير أن لا أحد يخفي حقيقة تلك السعادة الخفية وروح الطرفة والدعابة التي يتمتع بها المصريون، كباراً وصغار. تلك الروح الكريمة وأنت تسمعهم يحيون الملايين من أخوتهم اليمنيين والسوريين والسودانيين الذي هربوا من ويلات الحروب في بلدانهم إلى أمهم القاهرة.
في لقائي مع أصدقائي المصريين، أصدقاء قدامى وجدد، تشعر فعلا أنك أمام شعب كريم المشاعر مضياف ووفي رغم الظروف العامة. إنهم عينة من كل المصريين العاديين وحكومتهم الذين لا يتحدثون عن الملايين النازحين الذين لديهم سوى أنهم ضيوف.