حائط

ثقافة الاعتراف.. قداسة المحبة

 

 

نشوان العثماني

 

لا أحد ينخرط في مشروع التنوير، بمستوياته، ثم يكف عنه. غير أن مراجعات مهمة تحدث في هذا السياق.وللمرء إما أن يواصل ما هو عليه أو أن يعيد تأمله وتفقّد خطواته والإفصاح عما كان، فإن وجد خطأ أشار بصدق إليه واعتذر عنه.هل توجد مشكلة في هذا؟حاشا.. بل المشكلة في غيره. المشكلة تحديدًا في الاستمرار المغذى بالمكابرة.فإذن ما هي ثقافة الاعتذار؟ وعما اعتذرت تحديدًا قبل أسبوعين؟لا يمكن الاعتذار بالمطلق عن أهمية وضرورة الدفاع عن حرية الضمير والمعتقد وقيم الديمقراطية والعلمانية والمساواة بين الجنسين والتعدد الثقافي والروحي وتعايش الأديان وحوار الثقافات.هذه ليست خطأ ولن تكون.. هذه أيقونات الحياة الكريمة لكل الإنسانية.وهذه كلها لا تعد أبدًا وبأي حال من الأحوال نقدًا لهذا الدين أو ذاك مهما ظن كثيرون أنها كذلك. كل الثقافات التقت أو تلتقي أو يجب أن تلتقي حولها.لكننا في البيئة الإسلامية نعاني من خطاب متطرف وحاد فكان أن واجهناه بالخطأ ذاته بالتطرف والحدية. وبدل أن نفتش في أهمية أي ثقافة من داخلها لنبني ما نستطيعه في تقريب وجهات النظر واكتشاف ربط المحبة، ذهبنا لاستهداف الجمل بما حمل.هنا يكمن الاعتذار بالتحديد.ما قيمة أن تهد البيت على رؤوس ساكنيه؟وعمليًا أنت تهده في واقع افتراضي فقط، وعند مستوى محدود، بينما تجده يتقوى أكثر في الواقع المباشر.والمهمة النبيلة لأي إنسان أن لا يهدم أي منزل. فالأحجار قد دبت فيها علاقة حسية أنيسة وروح بشرية، وثمة كل مرة إنسان يستظل في الداخل.اذهب إليه، فأنتما بحاجة لبعضكما. فإن أشهر سيفه بوجهك، اشهر له ابتسامتك. ففي حال قلت أنه لا يعرف، فأنت تعرف. والمبادرة في الحب تأتي منك، وكم هو بأمس إلحاجة إليك وهو لا يعلم.ولا أخفيك أيضًا، كم إنك أنت الآخر بأمس الحاجة إليه.ثقافة الاعتذار تعني أن يعيد الإنسان اكتشاف عالمه الداخلي كل مرة، على وقع ما يقرأه ويعيد هندسته. ذلك لا يمكن أن يتاح له إلا شريطة الضمير وهو ما نسميه مكاشفة الذات، هذه الذات التي إذا ما تضخمت عصفت بكل شيء، وكلما توارت للخلف لصالح الحضور الفاعل لقيمك الروحية وإيمانك، كان ذلك مدعاة لأن تكون طفلًا باستطاعتك الاعتراف والاعتذار وطلب الغفران والمسامحة.كثير من المنشورات التي كتبتها كانت صادقة في النقد نبيلة في الهدف لكنها فُهمت خطأ. ليس عنها اعتذر.. وبشأنها أتمنى ان تُفهم كما هي.لكن منشورات أخرى وتعليقات وتفاعلات هنا وهناك كانت قد اقتربت مما لا يمكن الاقتراب منه وفق الثقافة.لنحترم هذه الثقافة بمحبتنا واحترامنا لأصحابها دون الانزلاق في تبني وجهة نظرهم.يجب أن نتفهم النص وسياقاته. وعلينا كل مرة أن نقدم فهمًا آخر له، أكثر عمقًا وجمالًا.هذا النص إذا ما قرأه جاهل قتلك وهو يظن أنه يقدم خدمة للرب. وإذا ما قرأه مستنير أحبك. وليس من هدف أعلى وأسمى من الحب.في “القرآن” مئات الآيات التي تعطينا قيمة وجودية روحية عالية المستوى، يمكنها أن تنير الوعي الإنساني والبشري لمدى لا نهائي. وفيه عشرات الآيات التي يتمحور بشأن تفسيرها وفهمها الخلاف.كذلك فيما يخص الأحاديث، لكن التفاصيل كثيرة هنا.في الانجيل، حين تعرض السيد المسيح للتجربة، أوجد لنا فهمًا آخر عنوانه “مكتوب” و”مكتوب أيضًا”.في انجيل متى الأصحاح الرابع:(5 ثُمَّ أَخَذَهُ إِبْلِيسُ إِلَى الْمَدِينَةِ الْمُقَدَّسَةِ، وَأَوْقَفَهُ عَلَى جَنَاحِ الْهَيْكَلِ،6 وَقَالَ لَهُ: «إِنْ كُنْتَ ابْنَ اللهِ فَاطْرَحْ نَفْسَكَ إِلَى أَسْفَلُ، لأَنَّهُ مَكْتُوبٌ: أَنَّهُ يُوصِي مَلاَئِكَتَهُ بِكَ، فَعَلَى أيَادِيهِمْ يَحْمِلُونَكَ لِكَيْ لاَ تَصْدِمَ بِحَجَرٍ رِجْلَكَ».7 قَالَ لَهُ يَسُوعُ: «مَكْتُوبٌ أَيْضًا: لاَ تُجَرِّب الرَّبَّ إِلهَكَ»..)هذا الذي يمكن القيام به في المساحة الواسعة داخل القرآن. فقد “ورد” في التنزيل، لكن “ورد أيضًا”.ورد في سورة آل عمران الآية 85 {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ}.وورد أيضًا في سورة البقرة الآية 62 {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَىٰ وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}.صورة جميلة عن الآخر. فـ لـ يُشيد للحب هنا بيتٌ من حجر على صخرة المحبة على ضفاف هذا النهر.وعلينا أنْ نتذكر أنّ ليف تولستوي حين واجه ما أسماها بالهجمة ضد المحمدية (الإسلام) في كازان ذهب لترجمة مختارات من كتاب لـ عبدالله السهروردي، تقدم صورة مختلفة وجميلة.*لم تكن هناك حكمة أبرع من هذا الفعل. وقد اكتسب تولستوي محبة الملايين من المسلمين لدرجة أنهم حسبوه قد أسلم. (لم يسلم. أصبح مسيحيًا أكثر، لكن وفقًا لصيغة مختلفة عما كانت عليه الكنيسة الأرثوذكسية الروسية التي أصدرت بحقه الحِرْم.)فمن الذي أفاد وقرّب وجهات النظر، وأعطى كل هذا البعد العظيم في قنطرة الضفتين، وأوجد مساحة في المحبة والتعايش وازدهار الحياة، نقد المحمديين الذي كان أم هذا الكتيّب؟من الواضح أن فهمًا مختلفًا يمكن القيام به في كل مرحلة.أين يمكن لنا أن نذهب بإيمان وروحانية رابعة والحلاج وابن عربي ومولانا جلال الدين الرومي؟ كيف كان هؤلاء مسلمين؟ كيف فهموا العلاقة مع الله؟صحيح أن هناك وعيًا سلفيًا يرفضهم، ويمتلك ضدهم لغة عنيفة وحادة. نعرف أكثر من ذلك أن هذا الوعي ضحية للفهم وليس للنص. فلدينا خياران اثنان: أحدهما أوجد لنا قصيدة الناي والآخر قدم لنا عُقدًا وعقيدة تقصف هذا الناي. كلاهما قدّما فهمًا مختلفًا، لكنهما في الإسلام ذاته. ما الذي يعنيه هذا؟وفي زمننا هذا وبيئتنا، يقدم لنا شيخنا أبو الفتوح الشافعي نموذجًا مختلفًا كذلك. لم يحدث أن وجده المرء يومًا محتدًا ضد أحد، ومطلقًا لم يكفّر أحدًا، وإذا ما أتيته من أي مشرب لا تجد أمامه إلا الترحاب. منواله دومًا ثمة ما يمكن البناء عليه وفهمه.. مقاربات فارقة كل مرة. يمكن أن نتفق هنا وأن نختلف هناك مع بعض ما يقدمه، لكنه يُبرِز لنا مشهدًا نادرًا

زر الذهاب إلى الأعلى