المثقفون العرب ومحنة السياسة
فاروق جويدة
«لعن الله السياسة ما دخلت شيئا إلا وأفسدته», هذه المقولة الشهيرة جاءت على لسان الإمام محمد عبده منذ عشرات السنين, ولعله كان يقرأ مستقبل العالم العربى رغم أن الإمام مهد لصحوة فكرية ودينية ما زلنا نهتدى بها حتى الآن.. طافت فى خيالى وفكرى كلمات الإمام وأنا أرصد ما فعلته السياسة فى المثقفين العرب عقل الأمة وضميرها.. وكيف عبثت بهم تيارات وصراعات ومعارك فتراجعت أدوارهم وضاقت بهم الأرض وتشرد الكثيرون منهم فى بلاد الغربة رغم أنهم كانوا الأحق والأجدر أن يقودوا شعوبهم نحو مستقبل أفضل وحياة أكثر كرامة.
> فى عواصم أوروبية كثيرة تشاهد المثقفين العرب ينتشرون على المقاهى وهى عادة مخصصة لهم فقد هربوا من أوطانهم مطاردين بسبب السياسة والصراعات والحروب الأهلية.. إن هناك سؤالا دائما يطرح نفسه من أساء للآخر ومن أفسده, هل أساءت السياسة للمثقفين العرب, أم أن المثقفين هم الذين ورطوا أنفسهم فى معاركها ومصالحها وحساباتها ومن الذى سعى للآخر.. إن للسياسة ثوابتها وهى تتعارض تماما مع ثوابت الفكر والإبداع والثقافة وهى غاية المثقف ودعوته وأحلامه، إن الشيء المؤكد أن كليهما سعى للآخر.. إن السياسة كانت ومازالت تحتاج إلى دعاة على منابرها، إنها فى حاجة إلى أبواق تخاطب الناس وتقنعهم بمواقفها وأهدافها ومصالحها.. وهى لا تريد من المثقف نصحا أو توجيها أو دعوة حق إنها تريده لكى يبرر الأخطاء ويدعى الفضيلة وهى تحتاجه فى الشدائد والأزمات مدافعا ونصيرا فى كل شيء.. إنه الفدائى الذى يفجر نفسه ولو كان ذلك دفاعا عن كارثة أو منتصرا للباطل..
> على جانب آخر لم تتردد بعض مواكب المثقفين فى أن تقبل هذا الدور حتى ولو خسرت المصداقية وتسرب عدد كبير من المثقفين إلى مواكب الساسة.. وحفلت الساحة السياسية فى العالم العربى بوجوه كثيرة بحثا عن أدوار ومصالح واستطاعت دهاليز السياسة أن تجذب أعدادا من المثقفين الكبار أمام إغراءات المال والنفوذ والسلطان.. وكانت إغراءات المال أقوى من كل درجات المقاومة لدى أعداد كبيرة من المثقفين العرب.. وهنا دخل عامل آخر هو بريق الإعلام والفضائيات وأساليب التكنولوجيا الحديثة وأصبح الإعلام من أهم وأخطر أسباب العلاقة بين المثقفين والسلطة السياسية وكأن المال سلطان على الجميع..
> حين تحررت الشعوب العربية من الاستعمار كان المثقفون هم قادة الفكر والوعى ودعاة الحرية.. وفى كل بلد عربى كنت تجد نخبة من المثقفين يقودون المعارك الفكرية والسياسية من أجل حرية الشعوب وحرية المرأة والتعليم وتحرير الإرادة.. وكانت هذه النخب هى التى حررت شعوبها ووحدت إرادتها.. ولا شك أن هذه النخب هى التى حققت أحلام شعوبها فى الاستقلال ووضعتها على خريطة العالم.. ولكن الأحوال تغيرت أمام تيارات فكرية وسياسية وافدة وصلت بالشعوب إلى حالة انقسام ظهرت من خلالها كل التناقضات والخلافات وصراع الأقليات.. ولم يكن غريبا أن تطفو على السطح أحزاب سياسية وتجمعات وكلها تمثل مصالح لا وجود لها أمام قضايا الاستقلال وحرية الأوطان..
> ولا شك أن الأحزاب والقوى السياسية الصاعدة كان هدفها استقطاب النخبة والسعى إلى الاستعانة بالمثقفين فى العمل السياسى.. بل إن المثقفين أنفسهم وقعوا فريسة الانقسامات الفكرية والأيديولوجية ما بين اشتراكى وماركسى وإسلامى ورأسمالى، بينما اتجهت حشود أخرى تسبح بحمد الاستعمار الراحل وتبكى على أيامه.. وسط هذا كله كان الانقسام الأكبر فى كتيبة المثقفين العرب ما بين تقدمى ورجعى، وكان ذلك تحت تأثير الصراع الدامى بين الأنظمة العربية التى انقسمت على نفسها بين قوى تقدمية وأخرى رجعية.. وحسم الصراع المال الذى غير كل حسابات اللعبة السياسية وأصبح لعبة للمصالح..
> لا شك أن هذا كان التحول الأكبر فى مسيرة المثقفين العرب وإن كان المال قد نجح فى تغيير الكثير من الرؤى والمواقف والأفكار، ولعله مازال صاحب اليد العليا حتى الآن.. لم يكن أحد يتصور فى يوم من الأيام أن تكون هذه الثمار المرة هى آخر المشوار، ولم يكن أحد يتصور أن الشعوب التى ثارت من أجل استقلال أراضيها وتحرير إرادتها سوف تصل إلى هذا الواقع.. بينما قادة الرأى فيها حائرون إما بحثا عن مصالح أو هروبا من أوطانهم فى بلاد حاربوها يوما من أجل حريتهم أو نفيا من بلاد دمرتها الحروب الأهلية.. وكم تساءلت أين المثقفون العرب الهاربون الآن من أوطانهم وكم عددهم، وأين مثقفو العراق وسوريا واليمن وليبيا، وماذا بقى من أفكارهم ومواقفهم ونضالهم ودعواتهم للاستقلال والحرية والوحدة.. إن الغريب فى الأمر أن الاستعمار الذى رحل بالشهداء والضحايا قد عاد إلى بلادنا تحت أسماء مختلفة.. بينما الشعوب تعانى القهر والظلم والمجاعات..
> أين مواقف المثقفين الذين يطوفون الآن فى بلاد الله لا أعتقد أنهم نسوا مواقفهم ومعاركهم وقضاياهم.. إن السؤال الذى سوف يبقى دائما هل يشعر المثقفون العرب بالندم لأنهم فرطوا فى مسئولياتهم تجاه شعوبهم حين تخلوا عن دورهم وتركوا قضاياهم الحقيقية، وتحولوا إلى مواكب سياسية دخلت بأوطانهم فى متاهات من الصراعات والمعارك.. إننى أتمنى أن يراجع عقلاء هذه النخب مواقفهم باختلاف أوطانهم ومواقعهم لكى يستعيد المثقفون دورهم ورسالتهم فى نهضة الشعوب وأمنها وكرامتها..
> لقد كان الإمام محمد عبده على حق حين لعن السياسة وللأسف الشديد إنها كانت اكبر خطايا المثقفين العرب حين انقسموا على أنفسهم وتحولوا إلى شيع وأحزاب ثم تخلوا عن رسالتهم بحثا عن مال أو مناصب وكانت النتيجة ما نراه اليوم فى عالمنا العربى وكيف نتصور انه بعد معارك الاستقلال والحرية تكون الحروب الأهلية وبعد قضايا البناء تكون قضايا الدمار.. وبعد أن كنا خير أمة أخرجت للناس أصبح مثقفونا يطوفون فى عواصم العالم فى زمن الشتات..
> لا أحد يعرف عدد المثقفين الهاربين من أوطانهم.. ولا أحد يعرف حجم الانقسامات فى صفوف النخب العربية ومن بحث عن المصالح أو المناصب أو من فرط فى تاريخه ومواقفه وقناعاته وقبل ذلك هناك البعض منهم مازالوا محاصرين فى أوطانهم.. إن الشيء المؤكد أن هذه الأمة لن تقوم لها قائمة إلا إذا عاد المثقفون إلى مواقعهم وأوطانهم وقضاياهم.. وإن العالم العربى قد خسر كثيراً حين انسحبت هذه النخب ما بين الصراعات والمصالح والانقسامات الفكرية والدينية والسياسية والحروب الأهلية.. وإن السياسة قد حرمت المثقف العربى من أداء رسالته الحقيقية فى الوعى والفكر والثقافة.. وحين تعود الأمة إلى مثقفيها عقلها الواعى وضميرها الحى سوف يكون الخلاص..
> كيف نعيد هذه الحشود إلى أوطانها وأين اتحادات الكتاب وجمعيات الفن والإبداع والنقابات الفنية والأدبية بل أين حكومات هذه النخب المبدعة وكيف تعيد دورها وموقفها وتأثيرها ورسالتها.. إن مسئوليتنا جميعا أن نعيد مواكب المثقفين المغتربين والمقيمين إلى أوطانهم..
ويبقى الشعر
مَا عُدتُ أَعْرِفُ..
أين أنْتَ الآنَ يَا قَدْرِى
وَفِى أَيْ الحَدَائِقُ تُزْهِرِينْ ؟
فِى أَيّ رُكنٌ فِى فَضَاءِ الكَوْنِ
صرتى تُحَلِّقِينْ؟
فِى أَيْ لُؤْلُؤَة سَكَنَتْ.. بأى بَحْر تَسْبَحِينْ؟
فِى أَيْ أَرْضٍ..
بَيْنَ أحْداق الجَدَاوِل تُنَبِّتِينْ؟
أَيَّ الضُّلوع قَدِ احْتَوتك ِ
وَأَيُّ قَلْبِ بَعْد قَلْبِى تَسكُنِينْ؟
<<<
مَازٍلَّتُ أَنْظُرُ فِى عُيونِ الشَّمْسِ
عَلَك فِى ضيِاها تُشَرقِينْ
وَأَطلُّ لِلبَدْرِ الحَزِينِ لَعَلنَّىِ
أَلْقَاكِ بينَ السَّحْبِ يَومًا تُعبرِينْ
لَيلٌ مِنَ الشَّكّ الطَّوِيلِ أَحَاطَنِى
حَتَّى أَطَلَّ الفَجْرُ فِى عَينَيْكِ نهرًا مِنْ يَقِينْ
أَهْفُو إِلَى عَينَيْكِ سَاعَاتٍ..
فَيبدوُ فِيهِمَا
قيْدُ.. وعَاصِفَةٌ..عُصْفُور سَجيِنْ
أَنَا لَمْ أزَلْ فوَقَ الشَّواطئ
أَرْقُبُ الأَمْواجَ أَحْيانًا
يُراوِدُنِى حَنِينُ العَاشِقَينْ
<<<
فِى مَوكِبِ الأَحلَامِ ألمحُ مَا تَبقَّى
مِنْ رَمادِ عُهودِنَا..
فَأْرَاكِ فِى أَشْلائِهَا تَتَرنَّحِينْ
لَمْ يبْقَ مِنْكَ
سَوى ارْتعَاشَةِ لَحْظَةٍ
ذَابَتْ عَلَى وَجْهِ السّنِينْ
لَمْ يَبْقَ مِنْ صَمْتِ الحقَائِبِ
والكُئوسِ الفَارغَات سِوَى الأَنِينْ
لَمْ يبقَ مِنْ ضَوْءِ النَّوَافِذِ..
غَيرُ أَطْيافٍ تُعَانقُ لهفَتِى
وَتُعِيدُ ذِكرَى الرَّاحِلينْ
مَازِلتُ أَسْأَلُ : مَا الَّذِى
جَعَلَ الفَرَاشَة تُشْعِلُ النِّيرانَ
فِى الغُصْنِ الوَدِيعِ المستْكِينْ؟!
مَازِلتُ أَسْأَلُ : مَا الَّذِى
جَعلَ الطًّيورَ تَفِرّ مِنْ أَوْكَارِهَا
وَسْطَ الظَّلَامِ..
وَتَرْتَمِى فِى الطِّينِ؟!
<<<
ما عُدْتُ أَعْرِفُ..
أين أَنْتَ الآنَ يَا قَدَرِى
إِلَى أَيْ المدائِنِ تَرحَلِينْ؟
أَنَّى أَرَاكِ
عَلَى جَبِينِ الموْجِ..
فِى صَخَبِ النَّوارِسَ تَلْعَبِينْ
وَأرَى عَلَى الأُفْقِ البَعِيدِ
جَناحَكِ المنقُوشَ مِنْ عُمرِى
يحلَقُ فَوْقَ أَشْرِعَةِ الحَنِينْ
وَأرَاكِ فِى صَمْتِ الخَرِيفِ
شُجَيْرَةً خَضْراءَ..
فِى صَحْرَاءِعُمْرِى تَكْبُرِينْ
وَيَظَلُّ شِعْرِى
فِى عُيُونِ النَّاسِ أحْداقًا
وَفِى جَنْبى سِرًّا.. لَا يَبينْ
لَمْ يبقَ مِنْ صَوْتِ النوارِس
غَيرُ أَصْدَاءٍ تُبعْثِرُهَا الرِّيَاحُ فَتنْزَوِى
أَسَفًا عَلَى المَاضِى الحَزِينْ
أَنَا لَمْ أزلْ بينَ النوارِسَ
أَرقُبُ اللَّيلَ الطَّويلَ
وأشْتَهَى ضَوءَ السَّفِينْ
مَازِلتُ أَنْتَظِرُالنوارِسَ
كُلَّمَا عَادَتْ مَوَاكِبُها
وَرَاحَتْ تَنثُرُ الأَفْرَاحَ فَوقَ العَائِدِينْ
<<<
مَاعُدْتُ أَعْرِفُ..
أين أَنْتِ الآنَ يَا قَدَرِى
وفِى أَيّ الأَمَاكِنِ تَسْهَرِينْ؟!.
العَامُ يَهربُ مِنْ يَدِى
مَا زَالَ يَجْرِى فِى الشَّوَارِعِ..
فِى زِحام النَّاسِ مُنْكَسِرَ الجبينْ
طِفْلٌ عَلَى الطُّرقَاتِ
مَغْسُولٌ بَلْونِ الحبّ
فِى زَمَنِ ضَنِين ْ
قَدْ ظَلَّ يَسْأَلُ عَنْكَ كُلَّ دَقِيقَةٍ
عِنْدَ الوَدَاعِ، وَأَنْتَ لَا تَدْرِينْ
بِالأَمْسِ خَبَّأَنِى قَلِيلًا فِى يَدَيْه..
وَقَالَ .. فِى صَوْتٍ حَزِينْ:
لَوْ تَرجِعِينْ
لَوْ تَرجِعِينْ
لَوْ تَرجِعِينْ
قصيدة “لو ترجعين” سنة 1998
fgoweda@ahram.org.eg