حائط

في التهيئة لمعارك التسوية السياسية اليمنية

 

بشرى المقطري

في جغرافية الحرب اليمنية، وعلى أنقاض فرص استعادة دولة اليمنيين، ترتسم حدود الكانتونات المحلية في شمال اليمن وجنوبه ووسطه وغربه، ضمن خطةٍ منهجيةٍ لإعادة ترتيب الدول المتدخلة الخريطة السياسية لليمن المستقبلي، وهو ما يمثل أحد أهم أهداف تدخلها العسكري في اليمن، إذ أوجدت كيانات مليشياوية محلية موالية لها. ففي مقابل تمكين جماعة الحوثي في مناطق شمال الشمال من الحكم كسلطة شيعية، فإن الدول المتدخلة دعمت عسكرياً ومالياً تشكيل قوى في نطاقاتٍ محلية معزولة، لتصبح هذه القوى سلطاتٍ موازيةً للسلطة الشرعية أو خارجها، فضلاً عن الأحزاب المدعومة من دول إقليمية أخرى، التي تشكّل، هي الأخرى، ثقلاً عسكرياً في مناطق نفوذها الخاصة، ومن ثم تستخدمها قوة باطشة ضد القوى المحلية الموالية لدول إقليمية منافسة لها، وتوظفها ذراعاً عسكرية لحماية مصالحها الحيوية في اليمن، مقابل شرعنتها سياسياً باتفاقات السلطة، تمهيداً لفرضها أمراً واقعاً في أي تسوية سياسية مقبلة، جديدها الدفع بتشكيل مظلة سياسية لقوة مسلّحة في الساحل الغربي، وبذلك يكتمل المشهد التفتيتي، ليس لليمن فقط، بل للكيانات السياسية الكبيرة.

يأتي إعلان تشكيل المجلس السياسي “للمقاومة الوطنية”، بقيادة العميد طارق محمد عبد الله صالح، الجناح العسكري لحزب المؤتمر الشعبي، جناح الرئيس السابق علي عبد الله صالح، المدعوم من الإمارات، في سياق استكمال ترتيب الخريطة السياسية اليمنية للوكلاء الجدد، فعلى الرغم من تأخر هذه الخطوة، في ضوء الدعم المالي والعسكري الذي يحصل عليه العميد طارق من راعيه الإقليمي، فإن الحراك الدبلوماسي والدولي لوقف إطلاق النار في اليمن تمهيداً لاستئناف المفاوضات سرّع كما يبدو في إعلان هذه الخطوة، لضمان حصة الوكيل من سلطة ما بعد الحرب. ومن جهة ثانية، أراد الراعي الإقليمي التهيئة لنجاح تجربة تشكيل قوة سياسية شمالية موالية له، تنطلق من مدينة المخا، لتجاوز الأخطاء التي رافقت تشكيل وكيله الآخر، المجلس الانتقالي الجنوبي، سواء على مستوى بنيته السياسية أو امتدادته الجغرافية، بحيث عملت الإمارات على تمهيد الأرضية السياسية والاقتصادية والاجتماعية في منطقة الساحل الغربي، أكثر من ثلاث سنوات، لتجذير سلطة وكيلها، العميد طارق، من خلال إنشاء مدينة “2 ديسمبر”، وغيرها من المشاريع الاقتصادية لتخليق حاضنة اجتماعية محلية للمكون، بما في ذلك شراء ولاءات القوى المحلية. كذلك نجحت الإمارات في تجاوز البعد المناطقي الذي ترتكز عليه بنية المجلس الانتقالي في التوليفة المركّبة لوكيلها في الساحل الغربي، إذ ضمّ مكون العميد طارق قوى اجتماعية متنوعة، بما في ذلك بقايا المقاتلين السلفيين التابعين لجماعة أبي العباس المُهجّرين من مدينة تعز، مع تمثيل نسبي للمجتمع المحلي المُضيف، وبذلك يكون مجلس العميد طارق أكثر فائدة للإمارات، أولاً لأن العميد ينتمي إلى حزب المؤتمر الذي يمثل قوة شعبية كبيرة بامتداداته الجغرافية في شمال اليمن وجنوبه، ومن ثم هو غير محصور جغرافياً كالمجلس الانتقالي، فقد ينجح في استقطاب المؤتمرين المشتتين في جميع المناطق اليمنية، بمن فيهم المؤتمرون الجنوبيون، الذين أقصاهم المجلس الانتقالي من هيئاته السياسية، ثانياً لقرابة طارق مع علي عبد الله صالح، ما يمنحه ورقةً سياسيةً لكسب ولاء المتعاطفين مع صالح، بما في ذلك قطاع واسع من القبائل، ثالثاً تكون الإمارات، ومن خلال أداتها الجديدة، قد ضمنت السيطرة على موانئ الساحل الغربي، بدايةً من مدينة المخا وحتى مدينة الحديدة في المستقبل، بما في ذلك فصل مدينة المخا، التابعة إدارياً لمدينة تعز، عن المدينة، إضافة إلى التمركز في باب المندب، أهم شريانٍ حيوي في الجزيرة العربية، علاوة على ضمانها وكيلاً سياسياً شمالياً، سواء بقي اليمن في إطار سلطة مركزية واحدة أو قُسِّم في مرحلة ما بعد الحرب.

 

المكاسب التي تحصل عليها العميد طارق صالح من تشكيل مكون سياسي هي الشرعنة لقوة عسكرية ممثلة بألوية “حرّاس الجمهورية” المدعوم من الإمارات، وهو ما يضمن للعميد طارق تنمية موقعه في الساحة اليمنية، وأيضاً إرباك خصومه المحليين. فإضافة إلى إيجاد غطاء سياسي لقواته العسكرية، من خلال تأكيد انضوائه تحت مظلة الشرعية الدستورية، وبذلك تجاوز تصنيف قواته جناحاً مليشياوياً، على الأقل بين أنصاره، وضمان شرعية حربه ضد جماعة الحوثي في ثورة “2 ديسمبر”، كاستحقاق سياسي، أسوةً بالقوى المقاتلة الأخرى، فإن دمجه الألوية العسكرية في إطار قوة سياسية وليدة، يمكّنه من فرض مكونه في أي تسوية قادمة، تماماً كالمجلس الانتقالي، وبذلك يتجاوز إشكالية استبعاد تمثيل المؤتمر الشعبي، جناح الرئيس صالح، كما حدث في حكومة فرقاء الرياض. وبهذه الخطوة، منح المجلس السياسي أعضاء المؤتمر المستبعدين المشروعية في التمثيل السياسي. ومن جهة ثانية، فوت الفرصة على خصمه، حزب التجمع اليمني للإصلاح، في استهدافه عسكرياً، من خلال تجنب الفخاخ التي ينصبها عبر اتباع تكتيك خصمه، حيث اعتمد الحزب، في إزاحة منافسيه، على نزع المشروعية منهم، كقوات القائد السلفي أبي العباس، لكونه لا يتكئ على قوة سياسية تضمن استمراره في المستقبل. وبذلك يكون العميد طارق قد شرعن سياسياً مليشياته، وحمى نفسه وقواته العسكرية، ولو مؤقتاً، من بطش خصمه.
التحدّيات التي يسببها تشكيل مكون سياسي جديد بذراع عسكري لا تقتصر على إفساد الساحة السياسية وملشنتها، عبر جعل القوة العسكرية الأداة الوحيدة الضامنة للتمثيل في أي سلطة مقبلة، بما في ذلك تكاثر القوى السياسية المسلحة بولاءاتها العابرة للحدود، بل القضاء على أي فرصةٍ لانضواء المكونات المسلحة في دولةٍ مستقبلية، فضلاً عن تنمية دورات من العنف بين القوى المتنافسة التي تمتلك أذرعاً عسكرية، إلا أن هناك مشكلات أخرى أكثر أهمية، ليس فقط في بُنية المجلس الذي يترأسه العميد طارق، بل في المجال الاجتماعي الذي يتحرّك فيه، وبما يولّدهُ من تنافساتٍ أخرى بين القوى المحلية المُضيفة والقوى السياسية المنافسة الأخرى؛ فبالإضافة إلى أن تحول العميد طارق، القائد العسكري وأحد جنرالات الحرب المحليين، وقواته إلى المجال السياسي، يفضي إلى إفساد القوى العسكرية الحالية، ودفع معظمها إلى تصدّر المشهد السياسي، فافتقار العميد الخبرة في العمل السياسي، وشخصيته المثيرة للجدل، قد يعوقان فرص عقد تحالفاتٍ محليةٍ تتعدّى القوى الموالية للإمارات، كالمجلس الانتقالي، وكذلك انخفاض شعبيته، لأدائه الملتبس في حماية عمّه الرئيس صالح إبّان حربه مع الحوثيين في صنعاء. ومن جهة ثانية، يعمّق تشكيل مجلس سياسي، حتى وإن أتى بوابة خلفية للمؤتمر الشعبي، تشظي الحزب المتشظي أصلاً، كذلك إن عدم ذكر العميد طارق شرعية الرئيس عبد ربه منصور هادي، وتأكيده للشرعية الدستورية، وهو ما يُعَدّ إعلاناً للسير على نهج الرئيس صالح، يعني فقدان المكون أنصاراً خارج حاضنة القوى المعارضة للرئيس هادي وجماعة الحوثي، فضلاً عن أن العميد طارق، وإن جذّر سلطته في مناطق الساحل الغربي، متجاهلاً التبعات على المجتمع المحلي التي يُحدثها استقدام قوى مقاتلة وأسرهم، بما في ذلك السيطرة على الموارد على حساب السكان المحليين، فإن الانتهاكات الجسيمة التي مارستها قوات طارق ضد المواطنين تجعل منه ضيفاً ثقيلاً. ومع أنّ من الصعب التكهن بقدرة المجلس على التأثير في المشهد السياسي، فإنه سيُحدث سباقاً بين ورثة صالح ومعارضيه لاقتسام مرحلة ما بعد الرئيس هادي.

 

القوتان المتماثلتان مغناطيسياً تتنافران، وفي الواقع السياسي القوتان المتماثلتان، من حيث منطلقاتهما وقوتهما العسكرية وعمقهما الاجتماعي والقبلي، تتنافسان، وأحياناً تتصادمان، إذ يكون العداء مرتكزاً على تنازع السلطة، كمحرك لمجمل تموضعاتهما، وليس لبعد وطني، إذ لا يتموضع حزب الإصلاح على الضد من العميد طارق وقواته، بما في ذلك تشكيله قوة سياسية، باعتباره ثورة مضادّة، بحسب ترويج إعلام الحزب، إذ لا علاقة للثورة بحسابات السياسة لمرحلةٍ لها متغيراتها والمسارات التي شكلتها، وإنْ نصّب “الإصلاح” نفسه مدافعاً عن الثورة لتحقيق مكاسبه السياسية، أو لأن العميد طارق وكيل للإمارات، إذ لا يختلف الإصلاح كحزب عن مشروع طارق، سواء في تنميته مليشيات مسلحة تابعة له في إطار الجيش وخارجه، بما في ذلك قوة الحشد الشعبي لزعماء قبليين في مدينة تعز، أو في أنه، هو الآخر، أداة إقليمية، حيث ينحصر الصراع بين القوتين السياسيتين العسكريتين على التنافس على المشروعية، ومن ثم الأحقية في السلطة، سواء الدستورية كالعميد طارق أو مشروعية الرئيس هادي، في سياق أشمل، وهو الصراع على وراثة صالح، بما في ذلك الصراع على الهمينة السياسية في شمال اليمن، مقابل جماعة الحوثي في شمال الشمال، والمجلس الانتقالي في الجنوب. وإذا كان “الإصلاح” قد نجح في التخلص من بعض القوى العسكرية المنافسة له بنزع المشروعية عنها، بما في ذلك محاولة تطويق قوات العميد طارق صالح في الساحل، من خلال إنشاء تكوينات مسلحة تابعة له، فإن الخطوة الاستباقية التي قام بها العميد طارق نفسه تمثل إرباكاً سياسياً وعسكرياً لحزب الإصلاح، وإن لم يكن انتزاعاً لأنيابه لهضم خصمه، حيث تبقى أولوية الحزب إزاحة طارق “عدواً رئيساً” أكثر من جماعة الحوثي، حيث لا تمتلك الجماعة قوة اجتماعية كبيرة، ومن ثم يمكن تحجيمها بسهولة في حال تطبيع الحياة السياسية، كذلك إن ثقلها العسكري محور أي مفاوضاتٍ لوقف الحرب، بعكس قوات العميد طارق التي هي كغيرها من القوات المسلحة خارج أي تفاوضٍ في مشروع الحل النهائي، وهو ما يجعل من العميد طارق، بقواته العسكرية ومجلسه السياسي والقوى الإقليمية الداعمة له المعادية لحزب الإصلاح، خصماً مكافئاً له، باعتبارهما قوتين عسكريتين تنامتا في ظل الحرب الحالية، ومن ثم قد تتواجهان في المستقبل، لكن في سياق حرب أخرى.

زر الذهاب إلى الأعلى