( عن تسوس الأسنان )
بقلم الدكتور عمر صالح باسيد
كغيري العديد من الأطفال حول العالم،كانت زيارة طبيب الأسنان من أعظم مخاوف الطفولة. لم يفارق ذاكرتي ذلك المشهد وأنا في التاسعة من عمري ،أبكي بحرقةٍ شديدة ممسكاً بيد أمي وهي تحاول تهدئتي بينما يقوم الطبيب بمعالجة سني المتسوس.
منذ يومها أحببتُ أن أتحدى خوفي وأتفوق في دراستي لألتحق بكلية الطب . لم أرغب يومها أن أصبح طبيب أسنان بالتحديد – ربما خوفاً أن يكرهني الأطفال- لذا تقدمتُ لإمتحان القبول لكلية الطب البشري جامعة عدن وتم رفضي رغم إجتيازي للإمتحان بتفوق.
هنا تعثرتُ بأول العقبات في طريق التحدي فهناك العديد من الطلاب حازوا درجات متقدمة جدًا في الشهادة الثانوية تم إعتمادها للقبول في كلية الطب ذلك العام.
في لحج- المحافظة التي أسكن فيها – جنوب اليمن لم يحظى طلاب دفعتي في الثانوية العامة بمدرسين جيدين للمواد العلمية المهمة لا بل لم ننهِّ دراسة بعض الكتب المقررة ورغم ذلك خضعنا للامتحان النهائي لشهادة الثانوية العامة بإجتهادات شخصية ودروس خصوصية للطلاب المهتمين في حين وجدت أغلبية الطلاب في الغش المستفحل في مدارسنا الحكومية ملجأ للهروب من الفشل. رغم أنه في بلادي لا يفشل أحد ،بل ينجح وبتفوق من لايستحق و يتم قبول هؤلاء الطلاب في أهم التخصصات العلمية للأسف ، وعلى رأسها دراسة الطب.
رغم شغفي لدراسة الطب العام لكني التحقت بكلية طب الأسنان وبعد دراسة عام كامل خضعت للإمتحان من جديد أملاً في الفوز وبدى ذلك وشيكاً أمامي إلا أني كنت في نشوة إكتشاف شغفٍ جديد وهو طب الأسنان. أحببتُ تلك الفكرة التي خطرت لي ساعتها أنّ تحوّل أعظم مخاوفك لتحدي لذيذ وأنّ تضرم في كل العقبات أمامك جذوةً من أملٍ ونور . فلا مشكلة أن تقضي حياتك شغوفاً بحلم ما وأثناء ذلك الطريق الذي تسلكه لتحقيقه يتفجر بداخلك شغفاً آخر وتتفتح في روحك أبعاداً أخرى لحياة ومستقبل جديدين لم تخطط لهما مسبقاً. المشكلة الحقيقية أن تستمر في التعثر دون نهوض وأن تتخبط في طرقٍ عديدة لوقتٍ طويل لا تكتشف فيها شغفك وهويتك الحقيقيتين ولاترغب حتى بمحاولة ذلك.
خمسُ سنوات هي المدة التي يقضيها الطالب هنا لدراسة طب الأسنان . مرت هذه السنوات بتحديات وصعوبات وضغوط كبيرة تخللتها ظروف الحرب الراهنة في اليمن ، انقطاع الدراسة بسبب ذلك، ظروف النزوح القاسية وصعوبات العودة مجدداً لمقاعد الدراسة في المناطق المحررة وما رافق هذه المرحلة من صعوبات التأقلم مع الدمار المحيط ، دمار الإنسان اليمني أولاً وما رافقه من دمار البلد،المنازل ، المباني،الطرقات والمدارس وغيرها .
كان المشهد مؤلماً بالنسبة لي وأنا أقطع الطريق الطويل الذي يصل محافظة لحج بعدن صباح كل يوم، مشاهد الدمار والخراب الممتدين ،قصص ومأسي الناس التي نلوكها في المواصلات كل يوم، المظاهر المسلحة وطبول الحرب التي لم تزل تقرع في الأرواح الخاوية . عدنا للكلية بعد فقدان أفراد من العائلة وأصدقاء من مناطق متفرقة وزملاء دراسة من مستويات مختلفة بقيت مقاعدهم كأحلامهم شاغرة لزمنٍ ما. كل ذلك بسبب الحرب البشعة والتي شكلت تحدي كبير كان عليّ كزملائي في الدفعة تجاوزه بأقل الخسائر ونجحنا جميعًا في ذلك حين أحتفلنا ببهجة وفخر لتخرج الدفعة ( 16 ) من كلية طب الأسنان جامعة عدن للعام الدراسي ٢٠١٦-٢٠١٧.
السنوات الخمس لدراسة طب الأسنان في اليمن لا تكفي وحدها لتؤهلك كطبيب أسنان ماهر، وأنت في البلد التي يُعد مستوى التعليم فيها متدني جدًا حسب الإحصائيات الدولية ، ناهيك عن تكاليف الدراسة الباهظة. كل ما سبق لن يشكل عقبة لذوي الشغف والطموح. تعلمت من سنوات دراستي أن سوق العمل يتطلب ماهو أهم من كونك ذكي وموهوب ومن أوائل دفعتك الدراسية .
الذكاء الاجتماعي والنبل الأخلاقي في تكوين العلاقات في المجتمع والحفاظ عليها . اقتناص الفرص المناسبة كون الحظ الجيد يقف دوماً في صف المجتهد المثابر . تعلمت أن أكون مستعدًا فحقيبتي دومًا جاهزة بالخطط البديلة . وإن فشلت إحداها انتقل للأخرى بسرعة دون أن تفقد روحي الشغف وحس المغامرة .
ليس عيبًا أن تتخرج كطبيب أسنان فتتأخر فرصتك في فتح عيادتك أو مشروعك الخاص أو الإلتحاق بعمل حكومي يضمن لك عيشاً كريماً . لا مشكلة أن تبيع الخضار أو الخبز ،تعمل في محل نت، أو تخيط الملابس أو تقود باص المدرسة لأطفال حارتك لفترة من الزمن . هذه التجارب الحياتيةالمختلفة مجتمعة تمنحك شهادة عليا في العلاقات الإنسانية لم تمنحها لك المدرسة ولا الجامعة . للأسف نظام التعليم في اليمن يفتقر للبرامج التربوية التي تؤهل الإنسان . وفي كليات الطب نفتقر لدراسة أخلاقيات التعامل الإنساني مع المريض والأمانة الأخلاقية التي عليك أن تلتزم بها كطبيب أثناء العلاج وبعده أيضاً.
أواخر أكتوبر الماضي ٢٠١٨وأنا أراقب العمال يرفعون (بانر )عيادتي الخاصة التي افتتحها في مدينة الحوطة محافظة لحج، لم أتمالك نفسي حين ذرفت عيناي بالدموع .تذكرت بقوة ذلك الطفل ذو السنوات التسع الذي كان يرتجف خائفاً ممسكاً بيد أمه باكيا ً في كل زيارة لطبيب الأسنان. ذلك الطفل الذي كان حينها كارهاً أن يصبح طبيب أسنان فأصبح كذلك وهاهو يمسك فخوراً و متبسماً يد كل طفل يزوره للعلاج،يمنحه بحبٍ أملاً جديداً بالشفاء من تسوس الأسنان والذي لايشكل مشكلة كبيرة أمام تسوس الإنسان وفقدانه الأمل وشغف الحياة.