اليمنيون في مصر: ضيافة بلا سياسة
- أنور العنسي
- بي بي سي نيوز عربي
قد لا يروق للمصريين، أن يوصف اليمنيون المقيمون في ضيافة بلادهم بأعدادٍ استثنائية بأنهم نازحون رغم أن هؤلاء باتوا أشبه بمجتمعٍ إنتقل إلى مصر بممثلين عن كامل أطيافه الاجتماعية وقواه السياسية والاقتصادية.
ويحلو لليمنيين القول، خلال هجرتهم الراهنة، إن لكل عربي “وطنين أحدهما مصر”. ولكن على الرغم من أنها اليوم وطنٌ ثانٍ لهم لكنهم يتطلعون للعودة لبلادهم وإن بدت الحياة فيها اليوم خلال الحرب أشبه بغربةٍ في الوطن.
يتعامل المجتمع اليمني باحترامٍ واضحٍ مع اعتبارات ومحددات الضيافة المصرية، ويتدبر الهموم الحياتية العامة لأفراده بأكبر قدر من العناية من خلال مجالس الجالية والجمعيات الخدمية التي أنشأها ناشطوه بما يتماشى مع انظمة البلاد وقوانينها المختلفة، والمصالح القومية العليا لمصر بمختلف أوجهها.
كيف تدير مصر ملف النازحين لديها؟
تعتبر القاهرة نفسها بيتاً لكل العرب: سودانيون، وهم الأقدم والأكثر عدداً، وسوريون وهم في المرتبة الثانية من حيث العدد، ومن ثم اليمنيون والعراقيون وعرب آخرون من مختلف البلدان.
تتعامل مصر الرسمية والشعبية مع الظرف الراهن لمعظم البلدان العربية التي تعاني من الحروب والاضطرابات السياسية، ومن بينها اليمن، بخبرةٍ ودراية بشؤون تلك البلدان، راكمتهما عقود طويلة من التجارب مع أحداثها وتقلباتها، وكذلك بمسؤولية بسبب موقعها الجيوسياسي ودورها في حياة العرب وعلاقاتها على الصعيدين القومي والدولي.
وتتعامل مصر مع معادلة دقيقة تتطلب المواءمة بين القدرة على مواجهة التحديات الداخلية الضخمة، ومن بينها قضية النازحين، والتزامات البلاد ومصالحها مع الخارج، وذلك بحسبةٍ إقتصادية وسياسية صحيحة يُفترض ألاّ تحتمل الخطأ.
عندما يدور الحديث عن عدد اليمنيين هنا فلا يجري عن حالة انتقال طبيعية لمئات اليمنيين أو حتى عشرات الآلاف منهم إلى مصر بل عن نحو مليون تقريباً، لا ينتقلون لأسباب اقتصادية، إذ أن كثيراً من اليمنيين يذهبون إليها بأموالهم والبعض يستثمرها هناك. ولا يتعلق ذهابهم إلى مصر من وجهة نظر البعض بمسألة نزوح جماعي قسري، مما يرتب على مصر أي التزام مادي تجاه اليمنيين كمخيمات أو إعانات اجتماعية أو خلافه.
لكن ما يلفت النظر هو التفاوت الكبير بين الجهات المصرية والأوساط اليمنية في تقدير عدد اليمنيين القادمين إلى مصر، وتنوع أسباب قدومهم ما بين مقيم دائم، أو مبتعث للدراسة، أو نازح، أو قادم بغرض العلاج أو مستثمر، وذلك منذ ما قبل السنوات الثماني الأخيرة من زمن الحرب وعدم الاستقرار في اليمن.
تشير الباحثة الفرنسية، مارين بوارييه، في دراستها الضافية عن القاهرة كـ “مركز للجغرافيا السياسية والاجتماعية اليمنية” الراهنة إلى أنه “رغم عدم توفر إحصاءات رسمية ووجود تباينات كبيرة بين التقديرات وفقا لموظف في السفارة اليمنية في القاهرة، إلا أن عدد السكان اليمنيين في مصر ارتفع من 100 ألف عام 2014 إلى 500 ألف بحلول عام 2019.
ويؤكد مصدر من البرلمان اليمني أن عدد اليمنيين المقيمين في مصر قد تجاوز 800 ألف عام 2020.
ورغم افتقار هذه الأرقام للدقة، لا يخفى ازدياد عدد اليمنيين الذين يسعون للحصول على إقامة مؤقتة في مصر، مع وجود أقلية صغيرة فقط سجلت أسماءها كلاجئين وطالبي لجوء حيث يتركز اليمنيون بشكل ملحوظ في وسط القاهرة والجيزة خصوصا، وبدرجة أقل في شرق الإسكندرية.
نشاط غير سياسي
رغم اتخاذ عشرات المسؤولين والقادة الحزبيين من القاهرة مقراً لإقامة عائلاتهم إلى جانب مدن أخرى كإسطنبول وكوالالمبور، إلا أنهم لا يزالون يعملون من العاصمة السعودية كمقر رسمي مؤقتٍ للحكومة اليمنية المعترف بها دوليا.
ولا يمارس اليمنيون في مصر أي نشاط سياسي علنيٍ أو غير علني “احتراماً لرغبة الإخوة المصريين” كما يقول لبي بي سي برلماني يمني طلب عدم ذكر إسمه، فالأمر “بالغ الحساسية بالنسبة للجانبين المصري واليمني”، لكن هذا لا يمنع من تواصل الساسة اليمنيين في مصر ببعضهم من خلال بعض المناسبات الاجتماعية والوطنية التي تجري أحياناً في حضور بعض أشقائنا المصريين”.
ويتفهم الكثير من الساسة اليمنيين موقف مصر القائم على ضرورة إيجاد حل سلميٍ للصراع اليمني دون تدخل عسكري فيه، وإن كان البعض يأمل في دور دبلوماسي مصري أكثر تأثيراً، إلا أن آخرين يرون أن ضيافة لائقةً بلا سياسة في مصر أفضل من سياسةٍ مقيدةٍ وبلا ضيافةٍ مناسبةٍ في غيرها.
لماذا مصر؟
ما يسترعي الانتباه أكثر أن تتحول مصر إلى ما يمكن وصفه بـ “نقطة تجمُّعٍ” لمئات العائلات اليمنية التي دفعت بها الحرب للقاء أفرادها القادمين من دول أخرى في أوروبا وأمريكا في مصر. وهي بالنسبة لهم المكان المناسب الذي تجتمع فيه الأسر في مواسم الأعياد ولإقامةحفلات الزفاف لأبنائها وبناتها، خصوصاً بعد أن منعت إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب الأمريكيين من أصول يمنية استقدام ذويهم إلى الأراضي الأمريكية.
ولا تخلو بعض هذه الحالات من رغبة بعض العائلات اليمنية المقيمة في الغرب في المجيء بأبنائها من صغار السن للإقامة أو لقضاء فترات لتعلم الثقافة الاسلامية واللغة العربية في بيئة ثقافية وسطية ومعتدلة تبدو معها مصر المكان الأمثل لذلك.
قواعد الإقامة وشروطها
تتلاءم سياسات الهجرة والإقامة في مصر مع ظروف النازحين اليمنيين من خلال جملة من التسهيلات والاستثناءات الممنوحة لهم، إذ يُسمح لمن هم دون الـ 18 وفوق سن الـ 60 عاماً وحاملي الجوازات الدبلوماسية والخاصة بدخول البلاد دون تأشيرة مسبقة، أما ما بين هذين المستويين من الأعمار فلا يتطلب الأمر أكثر من وثائق سفر صحيحة وبصلاحية لا تقل عن ستة أشهر إلى جانب تقارير طبية أو ما يبرر قدوم الشخص لمرافقة مريض، أو الدراسة أو المشاركة في المؤتمرات والندوات المختلفة.
ويمنح الراغبون من القادمين إقامة سياحية مجانية لمدة ستة أشهر إلى جانب تخفيضات في تكاليف العلاج والتطبيب وفي مختلف المنشئات السياحية شأنهم في ذلك شأن المواطنين المصريين أنفسهم.
التطبيب والعلاج
لطالما ظلت مصر تمثل الوجهة المفضلة لليمنيين للعلاج والتداوي، وفي السنوات الأخيرة قام عدد من الأطباء اليمنيين في مصر بتكوين لجنة طبية تعنى بخدمة المرضى اليمنيين الذين تزايد عددهم عقب اندلاع الحرب في بلادهم.
وتقدم اللجنة مساعدة مجانية لليمنيين من خلال عيادات مختلفة لأطباء يمنيين ومصريين، كما تتعاون اللجنة بالتنسيق مع بعض المستشفيات ومراكز الأشعة والتحاليل للحصول على تخفيضات كبيرة لليمنيين.
ما حجم الاستثمارات المملوكة لليمنيين؟
يضع العديد من بيوت المال والأعمال اليمنية في مصر مئات الملايين من أمواله في أوعية استثمارية متنوعة، بينما يركز أغلب اليمنيين أنشطتهم الاستثمارية على قطاع العقارات حيث سعت بعض العائلات الثرية وحتى وبعض النازحين العاديين ممن باعوا بيوتهم في اليمن إلى شراء عشرات الآلاف من الشقق والعقارات خصوصاً في القاهرة وعدد من المدن المصرية.
ويضاف إلى ذلك تأسيس عدد من الشركات والمكاتب اليمنية التي تقدم الخدمات العقارية، الأمر الذي ساهم في ارتفاع أسعار الشقق والإيجارات في المناطق التي يفضلها اليمنيون للسكن خاصة في أحياء الهرم وفيصل والدقي وبعض مناطق مدينة نصر ومصر الجديدة.
وجبات “المندي” و”السلتة” في مصر؟
تشكل سلسلة المطاعم والمقاهي اليمنية المنتشرة في عموم القاهرة، وبالأخص في أحياء الدقي وجامعة الدول العربية والمنيل أبرز عناوين الحضور اليمني في مصر، حيث يتزايد إقبال المصريين والعرب عليها بصورة لافته، وتكاد تتساوى أحياناً مع زبائنها اليمنيين، ويشكل المصريون أغلب العاملين فيها وقد بدا بعضهم يجيد اللهجة اليمنية في تخاطبه مع الزبائن ويحاول كذلك تعلم فنون المطبخ اليمني المتنوع.
الملاحظ في هذه المطاعم أن وجباتها تجمع من المأكولات اليمنية أطباقاً وأصنافاً تمثل المطبخ اليمني كله من صنعاء إلى عدن ومن حضرموت إلى الحديدة.
قهوة اليمن في مقاهي القاهرة
في بعض المقاهي البسيطة يمكن ارتشاف قهوة البُنٍّ اليمني ذي الجودة العالية أو تناول فناجين الشاي العدني بالحليب وقضاء أوقات ممتعة على نواصي تلك المقاهي مع مجموعات من اليمنيين مختلفي الأعمار، بينهم مثقفون وحزبيون متنوِّعو الانتماءات السياسية، وغيرهم، يتحلقون على موائد صغيرة، ويتسلَّون بلعب الشطرنج والدومينو التي يتخلل فرقعات أحجارها أحاديث لا تخلو من التهكم والسخرية مما آلت إليه أحوالهم في الوطن والشتات معاً.
الكتاب والحياة الثقافية
العنصر الأهم في المشهد اليمني اليوم في مصر يتمثل في وجود الكتب والإصدارات اليمنية الحديثة على واجهات ورفوف معارض الكتب والمكتبات المصرية، ومنها تذهب إلى معارض عربية أخرى، بينما تفتقد إليها مكتبات اليمن، ويُحرم من معظمها عشاق المعرفة فيه بالنظر للظروف الحالية.
تأسست في القاهرة مؤخراً بعض دور النشر اليمنية التي تعمل من خلال مقار محدودة المساحة ولكنها تتوسع في نشر اصداراتها محلياً وعربياً وعالمياً، ومن أهمها دار “أروقة” التي تسعى لإصدار نحو مئة عنوان هذا العام وخصوصاً في مجالات الدراسات والأبحاث والترجمة إلى العربية من لغات أجنبية عدة.
أما دار نشر “عناوين بوكس” فقد أعادت – وفقاً لمدير العلاقات والنشر أحمد عباس – طباعة بواكير الأدب اليمني وعدد كبير من الروايات والأعمال القصصية والدواوين الشعرية. ومنذ تأسيسها العام 2020 أصدرت الدار أكثر من 160 عنواناً، وتعمل على مشروع طموح للترجمة من عدد من اللغات منها الصينية والتركية.